حج عام 1953 وتبرع 1935

كانت والدتي، ولا تزال، تحدثني بين الحين والآخر عن مشاهداتها وعظيم انطباعاتها عن الحج وعن الرهبة والخشوع اللذين كانا يسيطران على مشاعرها كلما دخلت أجواء الحرم المكي الحرام بساحاته الواسعة التي تمتد الى ما لا نهاية، وأرضيات الرخام التي تبدو كصفحة ماء رقراق، والممرات المظللة والأعمدة الباسقة التي تجعل الأسقف فوقها تبدو وكأنها من دون عمد، ورائحة التاريخ الرهيب التي تملأ بعبقها المكان حاملة اسرار صراعات وحروب ودماء، وزهد وسطوة وتعطش للعبادة والسلطة معا! وكنت دائما اصغي اليها وأعلق على أقوالها بأن ما رأته وما شعرت به قليل جدا أو لا شيء مقارنة بما زخر به المكان من أحداث جسام وتقلبات لا يمكن للعقل العادي الإحاطة بها من خلال زيارة أو اثنتين أو حتى عشر للمكان.
وضمن هذا السياق سبق أن قامت مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» الأميركية في عام 1953 بإجراء تحقيق مصور عن موسم حج ذلك العام، وقام مراسلها الباكستاني بالتقاط مجموعة من الصور النادرة والمعبرة التي يمكن من مجرد النظر اليها تصور حجم التغير الذي طرأ على تلك البقعة خلال الستين سنة الماضية، ومقارنتها بالوضع الحالي لمدينة مكة ومنطقة الحرم. وبالرغم من قصر المدة نسبيا بحسابات التاريخ، فانه ليس من الصعب ملاحظة أن موسم حج ما قبل نصف قرن فقط لا علاقة له بتاتا بما يحدث الآن، فقد كان بسيطا بشكل عام إلى درجة كبيرة، وكان موقع مقام سيدنا إبراهيم، مختلفا تماما. كما يلاحظ من الصور الرقم الضئيل للحجيج وسهولة تحركهم وصغر مشعر رمي الجمرات الذي لم يكن قطر حلقته يزيد على الأمتار الخمسة أو الستة. كما أن المنطقة بكاملها كانت متربة ومعرضة للفيضان عند أول عاصفة مطرية. وفي بحر ألوان ملابس الحجاج والمباني كانت ألوان إعلانات الكوكا كولا هي الوحيدة الصارخة والبارزة، مع برادات بيع قنانيها في وسط الحرم. وكانت الحمير هي وسيلة النقل الأساسية سواء للحجاج او لنقل لحوم الأضاحي.
وفي هذا الصدد أيضا ورد في ملحق جريدة «حضارة السودان» الصادر في 1935/3/14 كشف أولي بتبرعات السودانيين «لإعانة» ساكني المدينة المنورة، حيث بلغ مجموع التبرعات 223 جنيها. وكان أكبر متبرع هو السردار المهدي، الذي دفع مائة جنيه، وكان لافتا للنظر وجود اسم «هنري جيد» بين اسماء المتبرعين، وهو وجيه سوداني كان معروفا في وقته، كما كان للجنيه قيمته الكبيرة وقتها. وربما جاءت تلك التبرعات نتيجة مجاعة أو حالة قحط اصابت المدينة في سنتها أو قبلها، وتلت تلك التبرعات قوائم تبرع أخرى شملت سكان مكة أيضا. وكان الحجاج السودانيون موضع ترحيب دائم من أهل الحجاز، ربما لكرمهم أو لما كانوا يحملونه معهم للحج من هدايا واطعمة، وكان يطلق عليهم «أولاد عباس». ويذكر أن الملك عبدالعزيز بن سعود نجح في السيطرة على منطقة الحجاز وتوحيد مملكته عام 1932.

الارشيف

Back to Top