سنوات السعادة

بلغت الستين من العمر قبل أيام، وتحديدا بتاريخ 7/9/2005! وحسب التاريخ الهجري الذي قام جدي بتدوينه على الغلاف الداخلي لمصحف كان لدينا، وهو التاريخ الذي قمت بعدها بسنوات بتحويله الى ما يعادله ميلاديا من واقع جدول الفلكي صالح العجيري، فإنني اتنفس في هذه الدنيا منذ 21900 يوم او 52560 ساعة وهذه تعادل 31536000 دقيقة!
ويمكنني الادعاء من واقع خبرتي وما تسعفني به ذاكرتي بأنها كانت في مجملها سنوات سعيدة وساعات هنيئة ودقائق اكثر من رائعة، وكل هذه التجارب، بحلوها ومرها، وما اقل الاخيرة منها، ستكون في القادم من السنوات المصدر الذي سأقوم باللجوء إليه لاستعادة، او لاجترار الذكريات منه، لتكون موضوعا لمقال او لحديث مع حبيب او قريب او صديق، او، وهذا هو الاهم، للشعور منفردا بلحظة حزن او فرح لتذكر انسان او مكان او حادثة ماِ كما يمكنني القول، وبتجرد تام وبشكل عام، إنه ليس من السهل على الفرد العيش في مجتمع لا ينتمي، عرقيا ومذهبيا على الاقل، لأغلبيته الطاغيةِ ويصبح بالتالي من الصعب على المنتمين لأقليات عرقية او دينية او خلاف ذلك الخروج من مرحلة اليفاعة والصبا دون خدوش وندوب نفسية تبقي اثرها في الخاطر لما تبقى من العمر! ولكن بإمكاني الإدعاء بأنني، ولأسباب سيرد ذكرها لاحقا، لم اشعر قط بأنني منبوذ اجتماعيا ضمن فئة ما او غير مرغوب في وجودي ضمن مجتمع معين، كما لم اشعر قط، طوال سنوات عملي التي زادت على الاربعين، كموظف وكرجل اعمال اعيش حياة اجتماعية ثرية، بأنني اعامل بطريقة ادنى من الآخرين او ان حقوقي المدنية منتقصة او مهضومةِ واعلم جيدا بأن الكثيرين، وخاصة من المنتمين لفئتي نفسها، ربما يشعرون بالمبالغة فيما اقول بسبب تجاربهم الحية وما لحق بالكثيرين منهم من ضيم وهضم حقوق، ولكنني صادق فيما اقول ولا حاجة لي بعد هذه السن وما اصبته من ثراء فكري ومادي لأن اجامل احدا، ايا كان! وقد يعتقد البعض أن السبب وراء عدم شعوري بعامل التفرقة ربما يعود لوجود خلل في تفكيري او بسبب عدم قدرتي على ملاحظة او قراءة اشارات النبذ والرفض الاجتماعي بطريقة سليمة، وهذا حقهم، ولن اجادلهم فيه!
وعليه يمكنني القول ان عاملين مهمين لعبا دورا حيويا في تجنيبي الشعور بالتفرقة، او التعالي على الآخرين، وهي المشاعر التي ربما انتابت الكثيرين من اقراني، والذين لم ينفكوا يوما عن التحدث عنها وعن تجاربهم الغريبة والمرة وسرد تفاصيلها في كل مجلس ومقام.
العامل الاول يكمن في ليبراليتي الدينية المبكرة التي بدأت معي وانا تلميذ في مدرسة الصديق، ولم اكن وقتها قد تجاوزت الرابعة عشرة من العمر!
فهذه الليبرالية هي التي ساهمت، باعتقادي، في تقبل الطرف الاخر لي وعدم شعوره بأي مشاعر فوقية او دونية تجاهي، فعادة ما يؤدي اختلاف مشارب البعض واختلاف مذاهبهم ودياناتهم الى خلق مثل هذه المشاعر بينهم، فكل طرف يعتقد أن الطرف الآخر يشعر بأنه احسن او ادنى منه، وهكذا.
كما يمكنني القول ان العامل الآخر الذي جنبني خطر الشعور بالدونية، وما ينتج عن هذا الشعور من عقد نقص خطيرة تؤثر على تصرف الفرد، او خطر الشعور بالتعالي تجاه الآخرين والاحساس بالافضلية على الغير من اصحاب المذاهب او الطوائف الدينية الاخرى، يكمن في القراءة ثم القراءة ثم القراءة.
فقد كانت القراءة المنفتحة والمتنوعة، وليس قراءات الكتب الصفراء، السراج الذي انار لي الطريق والذي به اهتديت، دون ان اقصد او ادري وقتها، وكانت بالتالي السبب في جعلي اكثر تسامحا مع الآخرين واكثر قبولا لهم، فالقراءة بينت لي كم هي ثرية ثقافات الشعوب الاخرى، وكم لدى الآخر من عطاء يمكن ان يغني حياتي و'يجمل' فكري! وهذا بالذات ما جعل الآخر المحلي، والخارجي، اقل رفضا لي في البداية، ثم اكثر قبولا وترحيبا بي بعدها، وخاصة بعد معرفتهم بحقيقة نفسيتي التي 'تمرنت' من خلال القراءة والممارسة على عدم النظر الى الآخر بتعال يتعلق بالخلفية العرقية او المذهبية، مع عدم الشعور في الوقت نفسه بدونية غير مبررة تجاه الآخر لأي سبب كان.
ملاحظة:
استغرقت كتابة هذا المقال خمس ساعات، او 300 دقيقة، وربما لا يستغرق الأمر من الكثيرين اكثر من 5 دقائق للانتهاء من قراءته!

الارشيف

Back to Top