انا والمرحوم شكسبير

عملت في احد المصارف في منتصف الستينات، وكان عملي كموظف حاجز يتطلب، من ضمن امور كثيرة اخرى، استلام الشيكات النقدية وتدقيق تفاصيلها وهوية اصحابها وارسالها لموظف الخزانة لدفع قيمتها بعد التأكد من وجود رصيد كاف في حساب العميلِ جاءني في احد الايام مراجع وقدم شيكا للصرف، ولكن الشيك لم يكن صادرا باسمه بل باسم شخص آخرِ بناء على تعليمات رئيس القسم رفضت صرف الشيك الا لصاحبه للمستفيد الاول.
اصر المراجع على ان من حقه صرف الشيك نقدا واصررت انا على رأيي بناء على التعليماتِ لم تنفع توسلاته في ثنيي عن 'قراري' فطلب مقابلة المدير العام، والذي كان يومها انكليزيا من النوع العصبي والمتهور، وكان تعلقه بشرب الفودكا صباح كل يوم سببا كافيا لكي يتجنب الجميع مغبة اثارة غضبه!!.
عاد المراجع، والذي كان عربيا ويحمل جواز سفر بريطانيا ويعمل رئيسا لتحرير احدى المجلات في اوروبا، برفقة المدير الانكليزي وتوجها لرئيس القسم الذي كنت اعمل فيهِ وبعد محادثة قصيرة بينهم طلبوا انضمامي لهم لمعرفة السبب وراء رفضي صرف الشيك! قلت لهم، وبلغة انكليزية جعلت المرحوم شكسبير يزورني في المنام بعدها بأيام ليطلب مني والدموع تترقرق في عينيه، ان اكف عن التكلم بها، جملة واحدة لا ازال، وبعد مرور ربع قرن، اتذكر كل كلمة فيها حيث قلت: no first customer no money!! جرى نقاش مطول بين رئيس القسم الهندي والمدير العام الانكليزي شارك فيه صاحب الشيك الاميركي، وحيث ان النقاش بين اصحاب الجنسيات الثلاث كان باللغة الانكليزية، فقد فضلت، ربما بسبب تواضع امكاناتي اللغوية، في عدم مشاركة صاحب جنسية رابعة، الذي هو انا، في ذلك الجدال!!.
فجأة توقف النقاش والتفت المدير العام الانكليزي نحوي، وشرر الفودكا يتطاير من عينيه ورذاذه من بين شفتيه، ومد يده نحوي بجواز سفر العميل وبداخله الشيك وقال لي:
appologize to the customer فأخذت الشيك منه دون ان انطق بكلمة وتوجهت لمقعدي وانهيت معاملة صرف الشيك، ولم ار ذلك المراجع بعدها!!.
تغيرت بعد تلك الحادثة مباشرة نظرة وطريقة معاملة موظفي ورئيس القسم نحويِ واصبحت قهوة الصباح تأتي الي حيث كنت اجلس، على الرغم من ان التعليمات كانت تمنع ذلكِ كما اصبح زملائي اكثر رقة ولطفا في معاملتهم لي، وازدادت عروضهم السخية لمساعدتي في عملي الذي كان يتطلب مني عادة البقاء في البنك بعد اوقات العملِ كما لاحظت ان سكرتيرات البنك اصبحن اكثر تجاوبا مع تلميحاتي واحسن تقبلا لزياراتي اليومية لمكاتبهن في الادوار العلياِ كما صاحب تلك التصرفات الايجابية، تجاهي ابتسامات غامضة وهمسات بين الموظفين كلما مررت بين مكاتبهم، ولم احاول ان اجد تفسيرا لكل هذا التغيير في مواقف الجميع نحوي خاصة انني كنت مستمتعا بالامر الى حد كبير!!.
* * *
يبدو ان لا احد يود ان يصدق ان بقاء الحال من المحال، فقد اقبل شهر رمضان علينا بعد تلك الحادثة بوقت قصير، وكان دخوله علينا سببا في ازالة كل ما علق بذهني، واذهان بقية موظفي البنك من اوهام!.
قبلت دعوة في اليوم الثاني من شهر رمضان من عام (ِِِ) لمشاركة بعض زملائي في تناول طعام الافطار في كانتين البنك!! وكنت الكويتي الوحيد من بينهمِ وكانت اسماء غالبيتهم تدل على انهم لم يكونوا من المسلمين، ولم اكن صائما يومها لاسباب خاصة، وهناك واثناء تبادل الحديث مع زميل لي كان يشاركني العمل على الحاجز، دفعني الفضول لسؤاله عن السبب الذي يجعله غير ملتزم بالصيام، كما هو حال بقية الموظفين من جنسيته!! وما ان سمع السؤال حتى انفجر ضاحكا وفقد السيطرة على فكه الكبير فتطايرت حبات الحمص والفول من فمه، وقال بعد ان هدأت ثورته الضاحكة ان السبب بديهي وبسيط حيث انه غير مسلم!! ويبدو ان سؤالي كان دافعا كافيا له ليفاجئني بالسؤال عن اسم قريبي عضو مجلس ادارة البنك الذي يسندني، وعما اذا كان بالامكان الاستفادة من واسطته!! وهنا توقفت عن مضغ لقمتي وسألته عما يقصده بسؤاله حيث انني لا اعرف احدا من اعضاء المجلس بصورة جيدة تكفي لكي اعتبر نفسي مسنودا، وما علاقة مجلس الادارة بي أو بشهر رمضان او بالمسيحيين العرب؟!
فكرر سؤاله وقال انني لا بد ان اكون 'مسنودا' بحيث تصبح لدي الجرأة والقوة لرفض تعليمات المدير الانكليزي!! وهنا انتابتني الدهشة وسألته عما يقصده بكلامه حيث لا اتذكر انني رفضت تنفيذ تعليمات المدير العام للبنك!!
وهنا ذكرني بحادثة الشيك وكيف انني رفضت طلب تعليمات المدير بالاعتذار للعميل صاحب الشيك عندما قال لي: appologize، واستطرد قائلا ان لا احد يجرؤ على اتخاذ مثل هذا الموقف، وخاصة اذا كان موظفا جديدا كما كانت الحال معي، دون ان يكون مسنودا من احد ما!! وهنا اكتشفت السر الكبير لذلك التحول الذي طرأ على مواقف رؤسائي وزملائي في البنك وسر المعاملة المميزة التي تمتعت بها لعدة ايام، ولكني لم استطع الا ان ابوح بالحقيقة لصديقي فقلت له ان السر وراء عدم قيامي بتنفيذ تعليمات المدير لم يكن سببه انني مسنود او مدعوم او لانني املك حصة مؤثرة في اسهم البنك، بل لانني وببساطة، شديدة، لا اعرف معنى كلمة 'ابولوجايز' ولو كنت اعرف معناها لما ترددت في الاعتذار!.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top