العزة في الكبر

يعتقد الكثيرون، وكنت منهم، أن الكبر في السن، كما نقول في لهجتنا، «شين»! ولكني اكتشفت اخيرا أن هذا ليس دقيقا دائما. فلو آمنا بأن الحياة ما هي إلا مراحل نمر بها، فعلينا أن نستمتع بكل مرحلة بالطريقة المناسبة. وبالتالي للتقدم في العمر فوائده ورونقه، وكل ما نحتاج إليه هنا هو القليل من التفكير وبعض الفلسفة، فالحياة ستنتهي يوما، فلمَ لا نستلذ برحيق كل مرحلة منها؟ يقولون إننا ما ان نكبر حتى نصبح أكثر رحمة بأنفسنا، وأقل انتقادا وعنادا لها، فللشعر أن ينمو أين يشاء وكيف يشاء، وله أن يتبدّل وينحسر دون أن نقلق، ولنا أن نصدر ما نشاء من أصوات، تجبرنا الطبيعة عليها، دون أن نكترث أو نعبأ بما يقوله الآخرون فينا وعنا. ومع التقدم في العمر تكبر معنا مساحة الحرية، بحيث تصبح محاسبتنا عن أي تصرّف أمراً صعباً، فلنا حق السهر لأي ساعة نشاء. وإن أوقفتنا الشرطة على حاجز فلن نكترث، فالتجاعيد ولون الشعر هما هويتا مرورنا دون سؤال! كما أنه ليس لأحد الحق في سؤالنا إن تأخرنا في الاستيقاظ صباحا، أو استغرقنا في النوم حتى ما بعد الظهر. ولنا حق استرجاع ذكرياتنا، وهذه متعة لا يعرفها من هم أصغر سنّاً منا، وأن نتذكر حبا حطّم قلوبنا أو علاقة غرامية حطّمنا فيها قلوب غيرنا، وأن نستمتع بأغاني الستينات والسبعينات، وحتى ما قبلهما، مع ولع بأغاني اليوم وغيرها.

نعم لقد مررنا بلحظات حزن كثيرة، ربما أكثر ممن هم أصغر منا، فقد شاهدنا أعزاء من حولنا يغادرون دنيانا الواحدة، والواحد تلو الآخر، وكنا نذرف دمعة هنا ونمسح واحدة أخرى على خد من نحب، ولكن كل ذلك جعلنا أكثر قوة ومقاومة ورغبة في أن نستمر في هذه الحياة، ونعيش كل لحظة منها، فقد رحل عنا كثيرون قبل أن يروا تحوّل شعرهم للرمادي والأبيض تاليا، ورحل آخرون مبكرين جدا قبل أن تعرف التجاعيد طريقها إلى وجوههم وأيديهم وأكتافهم وسيقانهم، وبالتالي نحن ممتنون، ليس لأننا كبرنا، بل لأننا بلغنا عمرا لم يبلغه الملايين من سيئي الحظ غيرنا، فلمَ نشكو أصلا ونحن لا نزال نتنفس ونسير ونضحك ونشارك أحبتنا أفراحهم ولحظات حزنهم؟ ولمَ لا نعشق الشخص الذي أصبحنا عليه؟ ولمَ يسوؤنا أن نكون بكل هذا الكبر والتقدّم في العمر، وهو أمر لا مفر منه، ولا نستمتع بالأمر بدلا من الشكوى منه؟ فلا شيء سيتغير، اشتكينا أم بكينا، فلمَ لا نستمتع ونمتع غيرنا بتوقفنا عن الشكوى والأنين، وننشرح؟ فلن يكون بمقدورنا أن نعيش إلى الأبد، وطالما أننا على قيد الحياة، فلا داعي للرثاء والندم على ما فات، بل علينا أن نركل المتاعب ونقوم من الفراش صباح كل يوم ونفرغ كل فضلات وسموم أجسادنا، ونفرد أذرعنا ونستنشق هواء جديدا غيره، وليذهب للجحيم من لا تعجبه تصرفاتنا.. نحن الكبار في السن.

الارشيف

Back to Top