الشِعر الذي خرب بيتي

يقول الشاعر الأميركي تشارلز بوكوسكي، إن بعض اللحظات جميلة، وأخرى أكثر جمالا، ولحظات تستحق الكتابة عنها!

لم أكن يوما طالبا مواظبا أو حتى نصف مجتهد، ومع هذا كانت غالبية المدرسين يحبونني، ربما لشقاوتي، ويودون مساعدتي، ولكني كنت أكثر ميلا للتياسة، التي اتعبت كل من هم حولي. وبخلاف لسعات خيزرانة الملا، فإنني اتذكر أيضا «الجحيشة المحترمة»، اي الضرب بعصاه على باطن القدمين، التي حسدني عليها بقية الطلبة، لأن من قام بها كان الناظر شخصيا، المرحوم حمد الرجيب، وكان ذلك «شرفا» لم ينله الكثيرون!

كما تألمت عندما عاقبني أستاذ الرسم، المرحوم أيوب حسين، وكان لطيفا ومهذبا، بقطعة طباشير بين إصبعي وضغط عليهما، فسالت الدموع من عيني من دون بكاء، فأرضاني برسم صورة لي، وكانت سمعتي أمام طلاب الصف انني «جني». وعلى الرغم من قصر قامتي النسبي، إلا إنني كنت أعوضها بجسارتي وعنفي في العراك، الذي عادة ما ينتهي بقميص مقطع وحذاء منتف. وكان حتى الأكبر سنا مني، يتجنبون ملاقاتي، وعرفت بعدها أن السبب هو خوفهم على ملابسهم، أكثر من «عضلاتي»!

إضافة لشقاوتي، فقد كونت سمعة بأنني لا أحفظ الشعر، ولكني كنت جيدا في مادتي التعبير والقراءة. وكنت انجح في العربي بالحصول على الدرجات الدنيا. وفي أحد الأيام قال لي مدرس اللغة: يا أحمد يا بني، إنت حتسقط لو ما حفظتش كم بيت لامرئ القيس! فقلت له يا استاذ لا أستطيع حفظ الشعر، فقال لي: انا حاساعدك، وامتحان بكره عشرة أبيات من المعلقة، احفظ كم بيت وأنا أديلك العلامة كلها.

سهرت الليلة بطولها وأنا أردد، لعشرات أو مئات المرات، كالأهبل:

وليل كموج البحر أرخى سدوله … علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه … وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه … بكل مغار الفتل شدت بيذبل

مكر مفر مقبل مدبر معاً … كجلمود صخر حطه السيل من عل

ولا أدري متى استغرقت في النوم والكتاب بيدي، ولكني ظللت الليل كله اهلوس بكلمات الـ: كموج والأيطل وكلكل وجندل، وطلع الصباح، وشعور ينتابني بأنني كنت نائما في اسطبل!

توجهت الى المدرسة، وأنا واثق من أنه سيكون بإمكاني أن اقول بيتين أو ثلاثة من المعلقة الزفت، وأحصل على الدرجة الكاملة، وعندما جاء دوري للإلقاء، صاح طلاب الفصل جميعا: أستاذ، أستاذ، أحمد ما يحفظ الشعر!

وهنا نظرت الى زملائي، وهم يضعون إكليل الغباء على رأسي، وقررت الا أخيب املهم، فجلست بكل فخر وأنا اقول للمدرس: أستاذ، «مو حافظ»: فرفع هذا رأسه من على مكتبه وتساءل بيأس: مش حافظ؟ يخرب بيتك، صفر!


أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top