خيارنا بين أمرين

يدَّعي أعداء التشدُّد الإسلامي، أو بالأحرى أعداء الديانات، أنها على الرغم من دورها المهم فإنها لم تأتِ لبناء حضارات، أو تكوين دول، بل أتت كرسالات لـ«خير البشرية»!
وبالتالي، كما قال المفكّر الراحل أحمد البغدادي، وشاركناه الرأي: «إن لا وجود لحضارة إسلامية وأخرى يهودية وثالثة مسيحية، أو بوذية أو هندوسية، بل توجد حضارات تختص بدار الإسلام، وحضارات تتعلق بدار المسيحية، أو حيث توجد اليهودية أو غيرها من الديانات، وإنها في الغالب مظاهر حضارية عرضية لا علاقة للدين بها». فالأديان لم تأتِ بمعادلات حسابية، ولا بكيفية شق وبناء الطرق، وبناء الصوامع، وإقامة الجسور وتشييد السدود، وصناعة الآليات ووسائل الدفاع، بل أتت برسالات اجتماعية وأخلاقية، وأمور خلافية قد يقبلها البعض، وقد يرفضها البعض الآخر، لكن الحقائق العلمية، كجدول الضرب أو طريقة بناء جسر أمر مقبول من الجميع، ولا خلاف عليه.
ولكن معارضي هذا الرأي، وبالذات من المسلمين، ينطلقون في معارضتهم من «حقيقة» أن الحواضر الإسلامية؛ كبغداد، شهدت، في ذروة قوة الدولة الإسلامية، وعندما كانت أوروبا غارقة في ظلام التخلّف، تقدمًا حضاريًا قل نظيره، وأن الحضارة الغربية لا تزال إلى اليوم مدينة بالفضل لعلماء إسلام تلك الفترة، من أمثال العالم الكبير أبي بكر الرازي، الذي وصف بحلقة الوصل بين الطب القديم والطب الحديث، وابن الهيثم، عالم البصريات المعروف، والعالم العربي أبي يوسف الكندي، الذي آمن بأن النقل لا يمكن أن يسبق العقل، هذا غير أبي علي سينا، كبير علماء عصره.
ولا ننسى في هذه العجالة أبا الفلسفة الحديثة، وابن الأندلس، العالم ابن رشد، وغيرهم الكثير.
ولكن كلَّ هؤلاء الأفذاذ ومؤسسي الفلسفة الحديثة، الذين كان لهم الدور الأكبر في تأسيس حضارة دار الإسلام، تعرّضوا في حياتهم للجحود والتكفير والتشرّد والتعذيب، وحتى للقتل بأكثر الطرق همجية؛ بسبب توجيه مختلف تهم الكفر والزندقة لهم؛ فابن الهيثم اتُّهم بالكفر الصريح، لأنه رأى أن العالم قديم أزلي، وينبغي تقديم المنطق على النص، ولهذا اتُّهم بالجنون، وأُجبر على البقاء في بيته بالقاهرة، حتى مات وحيدًا بائسًا.
كما شكّك الرازي في كثير من المسلّمات، وكان يعتبر العقل والمنطق الطريق الوحيد ليصل الإنسان إلى الله. وكانت آراؤه سبّبت جلب السخط عليه، فاتُّهم بالزندقة والكفر، مما أدى إلى دفعه ثمناً غالياً.. وهكذا مع البقية.
وبسبب هذا الموقف السلبي من هؤلاء العلماء، فإنه من النادر أن نجد في يومنا هذا من يجرؤ على إطلاق أسماء أي منهم على المدارس والجامعات والمعاهد الطبية والمستشفيات، إلا ما ندر، وما هو موجود حاليًا يعود لفترة ما قبل الصحوة غير المباركة. ولو تسنّى للمتشدّدين، تغيير مسميات هذه المستشفيات لما تأخّروا في ذلك.
ومن هذا نجد أننا نصل إلى ذروة التناقض في موقفنا من هؤلاء العلماء؛ فنحن لا يمكننا بطبيعة الحال الاحتفاظ بالكعكة وأكلها في الوقت نفسه you can’t have your cake and eat it too.
فإما أن نعيد الاعتبار إليهم، ونتعامل معهم كمسلمين، وليسوا زنادقة وملحدين، ووقف سيل فتاوى التكفير بحقهم، وبهذا يصبحون جزءًا من التاريخ الإسلامي، وإما أن يستمر رأينا في زندقتهم وخروجهم من الملة، وبالتالي لا تجوز نسبتهم إلى الإسلام والمسلمين؛ فما خيارنا؟!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top