نحن والتطور (3 – 3)

يعود السبب في زيادة وتكاثر أعداد الجماعات البشرية وتكاتفها لزيادة إمكاناتها في الدفاع عن أنفسها أمام مختلف المخاطر. فما الحل الذي توصل اليه الانتخاب الطبيعي لتمكين الجنين البشري بدماغه الكبير من المرور من خلال قناة الولادة التي أصبحت ضيقة نتيجة المشي على ساقين؟! الحل هو أن يولد الجنين البشري خديجاً أي قبل أوانه بكثير مقارنة بباقي اللبائن. يعني لو ولد الجنين البشري بإمكانات جنين الغزال نفسها أو الخروف أو الحصان، لكان بإمكانه الوقوف على قدميه خلال دقائق من الولادة، والبدء بالعيش بصورة طبيعية، لكن هذا كان يتطلب استمرار الحمل البشري لثلاث أو أربع سنوات! وهذا مثال على الحلول التوازنية وغير المثالية التي تنتجها عملية الانتخاب الطبيعي.
كنتيجة لهذا فإن الطفل البشري يولد خلال تسعة أشهر لكنه يحتاج عناية كلية لسنوات، ودعم الأم لفترة أطول، مقارنة ببقية الحيوانات.
ومن التبعات الأخرى لولادة الطفل خديجاً، كما رأينا، هو حاجة الأم إلى من يعينها على رعاية الطفل، وتوفير الغذاء والماء لهما، وهذا ما لا أصل له عند بقية اللبائن (ولكنها متوافرة بأشكال مشابهة الى حد ما عند بعض الطيور). ومن هنا نشأت الخاصية البشرية في نشوء علاقات طويلة المدى بين الجنسين قد تستمر سنين أو حتى مدى الحياة التي تشكل الأساس البيولوجي النفسي للزواج. والزواج هو الآخر ظاهرة إنسانية متوافرة في شتى المجتمعات البشرية ويرجع ذلك الى أنه لم يكن بإمكان المرأة في المجتمع البشري البدائي أن توفر لنفسها ولوليدها العناية والحماية اللازمتين، دون مساعدة من طرف آخر، الزوج.
كما نتج عن المشي على قدمين شيوع آلام الظهر ومشاكل الفقرات ومفاصل الورك والركبتين عند شريحة كبيرة من الناس من كلا الجنسين، بسبب تحوير الهيكل العظمي البشري من المشي على أربع الى المشي على ساقين.
كما وجدنا أن لدى الكثيرين مشاكل مع أسنان العقل، فقد حصل فيها انكماش خلال المليوني سنة الأخيرة وذلك بفعل اكتشاف النار وممارسة الطهى مما قلل من حاجة الإنسان لمضغ طعامه. لكن عدد الأسنان لم يتغير وبقي على ما هو عليه، بحيث لم يعد هناك مجال كافٍ عند الكثيرين لنمو أسنان العقل، وهذا تطلب غالباً تدخلاً جراحياً.
كما وجدنا من الأمور التي يعانيها البشر مشاكل شبكية العين المعرضة كثيراً للانفصال وفقدان البصر.
ومن المشاكل الأخرى تصميم القصبة الهوائية في الإنسان وخطر الاختناق. فقد حصل انخفاض في مستوى حنجرة الإنسان خلال المليوني سنة الأخيرة وذلك لتكوين حجرة صوتية تتألف من البلعوم والفم وتجويف الأنف، وهذا يمكن الإنسان من استخدام صوته في الكلام والغناء. ولكن هذه الخاصية نفسها تجعله معرضاً للخطر، لأن أي شيء يبلعه يمر من فوق القصبة الهوائية والذي من الممكن أن يعرضه للاختناق. والإنسان عكس باقي البرايميت لا يستطيع التنفس والبلع في الوقت نفسه بسبب هذه الخاصية.
كما يشكو الكثيرون من اضطراب جهاز المناعة، الذي يقوم احيانا بمحاربة أنسجة الجسم نفسها بدلاً من الدفاع عنها مما يسبب أمراضاً خطيرة، هذا غير مشكلة تخلخل برمجة انقسام الخلايا وخطر الأمراض السرطانية، وتصميم الزائدة الدودية وخطر إصابتها بالالتهاب، وغير ذلك من مشاكل صحية.
وختاماً، وبما أن الأدلة العلمية تشير إلى صحة النشوء الطبيعي للإنسان وذلك بالانتخاب الطبيعي، على مدى ملايين السنين، فمن المهم إذاً دراسة وفهم تركيبة جسم الإنسان وكيفية تطوره. فقد كشفت لنا الدراسات العلمية المستفيضة، التي قدم المحاضر نبذة موجزة عنها، أن نشوء الإنسان حصل خلال ملايين السنين، وبشكل تدريجي وبفعل عوامل طبيعية بحتة بالإمكان دراستها وفهمها.
ولذا فإن فهم عملية تطور جسم ودماغ الإنسان سوف يساعد على فهم أعمق للأسباب التي تؤدي الى اضطراب وظائف الأجهزة والأعضاء وقد يساعد أيضاً في اكتشاف الحلول والعلاجات لها مستقبلا.
هذا ما يقوله العلم، وقد نكون جميعاً على خطأ!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top