في بلاد العميان (3 – 3)

معاناة نيو نز، بطل رواية الكاتب ويلز «في بلاد العميان»، تشبه معاناة المصلحين عبر التاريخ، خاصة في دول التخلف والبؤس والشقاء، التي تصر شعوبها على حجب ابصارها عن حقيقة تخلفهم، لا لشيء إلا لشعورهم بأنهم على حق، وغيرهم على ضلال، وهنا يجد المصلحون، كما وجد نيو نز نفسه، في صراع بين واقعهم وما يرونه ويؤمنون به، وبين الضغوط التي يتعرضون لها لكي يحتفظوا بأبصارهم أو فقدها لكي يقبل المجتمع بهم.
إن كل من يقرأ، في دولنا بالذات، رواية «في بلاد العميان»، يجد مدى ما بها من اسقاطات على الكثير من أوضاعنا، وتشابه حالة الصراع التي في داخل نيو نز، وفي داخل أي واحد منا، بين قبوله بما هو متعارف عليه من مجموعة من العميان، وبين ما هو موجود حولنا في دول العالم الأخرى، والأمثلة كثيرة، ويستحيل حصرها. كما ان استسلام البطل لعملية اقتلاع عينيه هو رمز لاستسلام الكثيرين للأمر الواقع، او للباطل، بعد شعورهم باليأس من القدرة على فعل شيء، وفشلهم في إقناع حتى ولو فرد واحد بأنه مبصر، وعلى حق، والآخرون غير مبصرين، ولا يرون ما هو في مصلحتهم، أو الكوارث التي ستحاق بهم حتما إن أصروا على المكابرة.
رمزية الرواية، كما ذكر منير تايه، في مدونة «هافينغتون بوست» تكمن في حديثها عن الجهل والفقر الفكري، وعن سهولة انتشارهما عندما يجدان الأرض الخصبة والمناخ الملائم، فالجهل هو الذي يحول الناس إلى مخلوقات حانقة مذعورة عاجزة.
وإن من يعيش في عالمنا اليوم فعليه أن يضع على عينيه عصابة سوداء، وأن يلغي عقله ويقتل ضميره، فكل شيء في هذا العالم يدفع بنا نحو الجنون، فلا حياة لمبصر وصاحب ضمير، العمى وموت الضمير أصبحا شرطاً للحياة على هذا الكوكب.
والعميان في هذه الرواية يمثلهم المتعصبون الذين ابتعدوا عن مسار التاريخ، وانغلقوا على ذاتهم، ورضوا بظلام جهلهم وعاداتهم، فلم يعودوا يرون النور في أي مكان آخر، والعميان هم المتعصبون الذين لا يقبلون الآخر ما لم يؤمن بأفكارهم ويصبح أعمى مثلهم.
كما أن الرواية تلقي بظلالها على الكثير من الأحداث حولنا علنا نعتبر أو نتعظ، فعندما تكون أنت العاقل الوحيد في زمن الجنون، والمتعلم الوحيد في زمن الجهل، والمبصر الوحيد في أرض العميان، فإن قيمك وأفكارك وآراءك ورؤيتك للحياة تصبح في كفة وتقبل المجتمع لك في كفة أخرى، وتشعر بأن عقلك وأفكارك عقبة بينك وبين المجتمع، أو أن ينظر لك المجتمع على أنك مواطن مريض يجب علاجه، ومحكوم عليك بأن تشقى، وأن يكيلوا لك الاتهامات بالجنون والتهور والخيانة والعمالة، فما أكثر أصحاب «عميان البصيرة» بيننا، فإما أن نستسلم ونصبح مثلهم، وإما أن نسعى جاهدين لتغيير هذه الحال، فبقاء الحال من المحال. كما أن الأمل في نجاح أي من المشاريع الضخمة التي يخطط لها القادة لنا لن يكتب لها النجاح بغير إحداث تغييرات وإصلاحات اجتماعية تساوي بين الرجل والمرأة، وتمحو تماماً سطوة رجل الدين، التي كانت دوما عاملاً معرقلاً لأي تطور وتقدم.
ملاحظة: سأقوم في التاسعة من مساء يوم غدٍ الجمعة بإطفاء أنوار البيت لخمس دقائق، وأدعو القراء لفعل الشيء نفسه، لنظهر تضامننا مع كفاح الشعب الفلسطيني.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top