سرّ النظّار العميق

المتصرفية هو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية من عام 1860 وحتى 1918، أصبح بموجبه جبل لبنان منفصلاً من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام. ولأسباب تتعلق بتعدد عقائد ومذاهب جبل لبنان فقد نص نظام المتصرفية على أن يكون الحاكم أجنبيا مسيحيا عثمانيا، ولكن غير تركي وغير لبناني، وذلك تفاديا لوقوع أي فتن بين مكونات الشعب. وجاءت فكرة المتصرفية في عهد التنظيمات الإدارية التي بدأها السلطان عبدالحميد الأول، في محاولة من العثمانيين انتشال الدولة من المشاكل الداخلية التي أصبحت تشكو منها، وأقر بعد الفتنة والحرب الطائفية الكبرى التي ضربت لبنان عام 1860، وما نجم عنها من مذابح مؤلمة في جبل لبنان وسهل البقاع وجبل عامل في الجنوب بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام، والموارنة والدروز، بشكل خاص.
ومن ذلك الوقت، وحتى العصر الحالي، والحكومة اللبنانية تتبع، تقريبا، نفس العرف في تعيين المحافظين (قائم مقام)، بحيث يكون من مذهب أو ديانة تختلف عن ديانة أو مذهب غالبية سكان المنطقة التي انتدب لحكمها أو التصرّف فيها، ليكون حكمه أكثر حيادية، فلا يميل لجانب ضد آخر، ويصعب على أي فريق شراء ولائه بسهولة، وبالتالي نجد أن محافظ الجنوب غالبا ما يكون مسيحيا، ومحافظ الشمال شيعيا مثلا.. وهكذا.
كان لا بد من هذه المقدمة الخفيفة قبل الدخول في موضوع سكوت وزارة التربية عن الخوض في قرار إجراء تنقلات للبعض من نظار المدارس من منطقة لأخرى، في سعيها للحد من حالات الغش، وهو القرار الذي أثار ثائرة عدد من طلبة المدارس من «الذكور» بالذات، وأولياء أمورهم، والتسبب في نعت وزارة التربية ومسؤوليها بأبشع التهم والأوصاف، وتدخل رجال الأمن لفضّ التجمع عن مكتب الوزير.
لم ترد الوزارة على تهجمات واتهامات هؤلاء، ولم تستفض في شرح علاقة نقل مديري ونظار المدارس الى مناطق أخرى. فإن كان الأمر يتعلّق بوقف الغش، فإن هؤلاء النظار «المتساهلين» سينقلون تساهلهم للمدارس التي نقلوا اليها، فلم نقلهم أصلا؟ كما أن الوزارة لم تعلن عن اتخاذ أي إجراء عقابي ضد هؤلاء النظار، المفترض أنهم متقاعسون عن أداء واجبهم الرقابي بطريقة سليمة، بل اختارت عدم اعطاء أي تفسير لصمتها.
حيرتي من القرار دعتني الى التفكير خارج الصندوق، وهذا ما لست بارعا فيه، والبحث عن سبب صمت الوزارة عن سوء تصرّف النظار المتهمين بالتساهل مع طلبتهم، وتقاعسها عن محاسبتهم، فلم أجد غير سبب له علاقة بنظام المتصرفية اللبناني. فالوزارة، كغيرها من مؤسسات الدولة في الكويت تخضع التعيينات فيها جزئيا لأهواء بعض النواب، وحيث ان كل مدرسة يكون غالبية طلبتها من أهل المنطقة السكنية فمن الطبيعي أن يكون غالبية مدرسيها أيضا من المنطقة نفسها، لأسباب عرقية ولوجستية، والناظر ليس باستثناء. وبالتالي كان تساهل الناظر والمدرسين مع طلبتهم أمرا متوقعا. ولوقف ذلك «التواطؤ» قرر وزير التربية المجدد وضع حد لهذا التسيّب فقام بإجراء عملية غربلة أو re shuffle لمجموعة من النظار، بحيث لا يكون للناظر المنقول الى مدرسة جديدة سبب لأن يكون أكثر «عطفا ورحمة وتساهلا» مع أبنائها، خاصة أنهم ليسوا من جماعته أو فئته، وليست له بالتالي «مصلحة سياسية أو غيرها» في عدم تطبيق النظام عليهم بصورة فعالة.
كما أن النظار الذين تم نقلهم، دون عقابهم، أعضاء في جمعية المعلمين التي يقال ان «الإخوان المسلمين» يسيطرون عليها، وربما كان سببا في عدم توقيع أي عقوبات عليهم.
هذا تفسيرنا للمشكلة، وقد نكون على خطأ، وإن كان كذلك فإننا نطالب الوزارة بإعطاء تفسير منطقي لسكوتها عن معاقبة، أو على الأقل، توبيخ النظار المتهمين بالتساهل، إن لم يكن طردهم من وظائفهم.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top