«72 ساعة في حياة برهان».. مغامرة المتشرد المليونير والحلم الأميركي المزيف

شافعي سلامة



مرة أخرى يعود الكاتب والروائي أحمد الصراف ليلقي ضوءا كاشفا عن مسيرة الهجرة والتهجير ومعاناتها، فينكأ هذه المرة جراحا في جسد المجتمع العربي عانت منها أجزاء منه وتداعت أجزاء أخرى بالألم والحزن مما أصاب ضحايا التهجير والنزوح والمضطرين لسبب أو لآخر إلى هجران أوطانهم والتوجه غربا بحثا عن أمان مفقود أو نجاح منشود أو هربا من اضطهاد او اختلاف مؤلم مع المحيط السائد أو المجتمع وعاداته وتقاليده.

فبعد روايته «عبداللطيف الأرمني والتفاحات الثلاث» التي قدم فيها خليطا من المشاعر الإنسانية في سرد لمجموعة من الأحداث التي مر بها البطل ووالده في رحلة هجرة امتدت أحداثها بين حلب السورية والعراق حتى وصل البطل إلى الكويت في خمسينيات القرن العشرين، يأتي الزميل الصراف بروايته الجديدة «72 ساعة في حياة برهان» ليتناول ملمحا جديدا من الثقافة أو الشخصية العربية الحديثة والمعاصرة وما تعانيه من مشاكل تتطلب الوقوف عندها وعلاجها حتى يتسنى لها التعايش في هذا العالم المتلاطمة أمواجه.

وعلى الرغم من أن الرواية لم تتطرق إلى ربط بين هجرة البطل «برهان» وما ظهر في المنطقة من تداعيات بعد الربيع العربي، لاسيما في الشقيقة سورية التي تتألم منذ سنوات، خاصة أن البطل سوري الجنسية، فإن البعض قد يميل إلى الربط بين مسيرة بطلها وما شاهده في السنوات الماضية من تهجير ولجوء ونزوح قسري هربا من ويلات الحرب وبحثا عن الأمان والحياة في أبسط صورها.

لكن لبرهان قصة أخرى، فقد خرج من وطنه سورية، لا هربا من حرب أو اضطهاد أو مجبرا على ترك الأهل والوطن بسبب قوى قاهرة، ولكن مفارقة للحياة العادية المملة في مجتمع يسيطر عليه السكون والجمود والتقاليد والعادات والتعاملات الاجتماعية التي يسيطر عليها النفاق والمجاملات الرتيبة والضيق من الزيارات العائلية، وبحثا عن الحلم الأميركي ذي اللمعان الظاهري وسعيا إلى الإحساس بروح المغامرة التي انقلبت في الأخير إلى مقامرة كبرى على مدار ثلاثة أيام كانت هي الأخيرة له في سياق الحلم الأميركي.

فبطل الرواية شخص عربي حالم يعيش حياة مضطربة تعكس ما يعانيه المجتمع العربي من تناقضات، تبدو قراراته أحيانا غير منسجمة مع آرائه، يحب القراءة ويدفعه كرهه للنفاق الاجتماعي إلى البعد عن الوطن والسفر بحثا عن راحة نفسية لا يجدها، ونجاح يرى أنه ليس في متناوله في بلده.

لكنه بعد السفر مع زوجته وتأسيس بيت وبعد فترة من الحياة المستقرة «المريحة والهنية» في هيوستن الأميركية، سرعان ما يعود إلى قديم عهده فقل عدد اصدقائه وكذا المعارف والزيارات وأدمن مشاهدة التلفزيون ثم شعر بالضيق والوحدة ثم انعزل أكثر واختار الصمت لساعات طويلة قبل أن ينتقل لمرحلة الغياب المتقطع عن البيت وبعدها دخل مرحلة التشرد!

أما البطلة نورة فهي امرأة شرقية بامتياز، نموذج لتحمل تقلبات الرجل وقراراته العجيبة أحيانا وغير المنطقية أحايين أخرى، تحملت العبء مع زوجها برهان دون كثير شكوى حتى عندما تركها سنوات تعاني وحدها في مواجهة المجتمع الأميركي المادي المتوحش وقرر أن يعيش حياة التشرد، لتعود بعد ذلك بعد معاناة «خالية الوفاض تماما من أميركا، بلا زوج ولا مال ولا ذكريات جميلة وبولد غير معروف النسب»، كان ردها على اتصاله الذي أراد أن يخبرها فيه بعودته حنونا بلا رفض أو تكدير أو حتى سؤال عما بدر منه من إهمال ولا مبالاة، بل كان سؤالها الوحيد عن موعد الطائرة التي ستقله إلى الوطن مرة أخرى.

بقية الشخصيات رسمت خطوطا عريضة لمجتمعين مختلفين، العربي بسكونه وقلة حس المغامرة فيه، والأميركي بتوحشه وماديته وغلوب فكر المقامرة عليه.

مجريات الرواية

تبدأ الرواية بمشهد ما بعد العزاء في وفاة البطل برهان، ليأتي بعد ذلك السرد الروائي في صورة مشاهد من «الفلاش باك» تسترجعها البطلة نورة زوجة برهان إلى أن نصل إلى الصندوق الذي تركه زوجها برهان وفيه كنز الذكريات والمذكرات.

من خلال هذه المذكرات تتعرف نورة على الكثير من المعلومات عن حياة زوجها خلال فترة تشرده وحتى تفسيرات لمواقف حدثت بينهما دون أن تفهمها في حينها.

فبعد فترة من العيش في سورية كان قرار الانتقال إلى أميركا، والتي تبين لبرهان ونورة لاحقا، كما غيرهما، أنها «ليست أرض الأحلام أو هي الجنة على الأرض أو ما يظهر في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية الأميركية، بل الواقع شيء آخر» حيث الأمان مفقود تماما والفرق في تكلفة المعيشة بين حي آمن وآخر غير أمن كبير جدا، ناهيك عن «الأخبار التي تسمعها على مدار الساعة عن ضحايا المخدرات وجرائم الخطف والحرائق المتعمدة والقتل والسرقة، حيث لا يكاد يمر شهر واحد حتى تسمع عن عملية قتل جماعية يقوم بها معتوه في مدرسة أو سوبر ماركت».

برهان شاب ثائر على المجتمع رافض لكثير من عادات الرتيبة المملة يمقت التكلف وما يقول إنه نفاق في كثير من المناسبات الاجتماعية، وسرعان ما تبدى له بعد استقراره في أميركا أن الآخر لا يقبله كما كان يتوهم فتتلاشى الصورة التي تكونت في مخيلته من أنه موظف جيد يستحق الترقية والزيادة في المرتب، وهو ما أدى به إلى صدمة كبرى وتغيرات جذرية في حياته، حيث يتحول أكثر إلى اللامبالاة والانعزالية حتى يصل به الأمر إلى اختيار حياة التشرد، وترك زوجته في مواجهة أعباء الحياة.

جاء هذا التشرد بعد صدمات ربما كانت أولاها ما تبدى له بعد فترة من العمل في أميركا أن الآخر لا يقبله كما كان يتوهم فتتلاشى الصورة التي تكونت في مخيلته من أنه موظف جيد يستحق الترقية والزيادة في المرتب، وهو ما أدى به إلى صدمة كبرى وتغيرات جذرية في حياته.

كانت هناك أيضا المكاشفة التي حدثت بين الزوجين على الارض الأميركية وكيف حكى برهان لنورة عن تجربتيه القاسيتين اللتين عاشهما مع المرأة اليونانية ومع زوج عمته، وما نتج عن ذلك من اضطراب نفسي لازمه مذاك، وكيف تذكرت هي في الوقت نفسه تحرش ابن جارهم الحاج تيسير بها أكثر من مرة وكيف لم يتوقف إلا عندما حذرته من أنها سوف تخبر والدتها.

صدمت نورة أيضا من كلام برهان عن تجربته مع المرأة اليونانية وتأثير ذلك على قدرته على الإنجاب.

في حياة التشرد، كما علمت نورة من مذكراته التي تركها في الصندوق المعدني، صارت الأمور أكثر وضوحا أمام ناظري برهان واطلع على جانب آخر من الحياة لم يكن معلوما لديه من قبل.

ها هو يسترجع قيمة الوطن الذي قال إنه يشبه الصحة لا تعرف قيمتها إلا عند فقدها، هذا على الرغم من منغصاته ومشاكله وزيادة البطالة ونقص فرص العمل وتفشي الفوضى والفساد.

كذلك، وفي رمزية ما يحدث مع المهاجرين أحيانا كثيرة في المهجر من تناقص في مستوى الطموحات، تضاءلت أحلام برهان خلال حديثه مع مايكل صديق التشرد من كونه أول شخص مشرد في التاريخ يكتب مذكراته نزولا إلى كونه أول أميركي ثم أول أميركي من أصل عربي وبعدها من أصل سوري.

الأيام الثلاثة الأخيرة

في نهاية مرحلة التشرد تصل الرواية إلى الـ 72 ساعة الأخيرة في حياة برهان في المهجر الأميركي قبل عودته إلى وطنه سورية وإلى زوجته نورة التي فارقها منذ سنوات إلى مرحلة مفصلية تحمل جل رمزية القصة حيث مقامرة البطل في الكازينو ليبدأ بدولار واحد حتى يصل إلى مبلغ أكبر من مليون دولار، في رحلة طويلة توضح كيف أن من يزهد في الدنيا ولا يتكالب عليها تأتيه ومن يحرص عليها ويفرح بها تهرب من بين أصابعه ويتجلى ذلك في خسارته كل مكاسبه في اللحظة الأخيرة قبيل صعود الطائرة عائدا إلى الوطن.

حلقات من الإثارة حفلت بها هذه الأيام الثلاثة الأخيرة لخصت مفهوم الغربة في المهجر بل مفهوم الحياة عموما، تلك الحياة التي تشبه الكازينو الذي يغامر ويقامر فيه الجميع فيكسب عدد قليل وتخسر الأغلبية دون أن يتعظ أحد ممن سبقه. الرواية من إصدارات دار ذات السلاسل.


مقتطفات من الرواية

٭ «ما الفرق بين المغامرة والمقامرة، أو العبقرية والجنون؟ ماذا كان سيكون عليه مصير البشرية لو لم يكن الإنسان فضوليا، مغامرا ومقامرا؟ من الذي كان سيعرف ما يقع وراء كل تلك الجبال الشاهقة أو البحار والمحيطات المظلمة لولا روح المغامرة التي كانت تشتعل في قلوب البعض والرغبة في معرفة المجهول؟».

٭ «كانوا يعتقدون كغيرهم أن أميركا هي جنة الله على الأرض، وان الوصول إليها غاية يجب أن تدرك، وهدف تهون الصعاب في الوصول إليه.. ولكن ما إن تطأ أقدام هؤلاء أرض الأحلام حتى يتبين لهم أن أميركا الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والحبكات الروائية شيء والواقع شيء آخر».

٭ «في الكازينو الكل منهمك باللعبة التي أمامه، منزو في عالمه.. وبالرغم من أن الجميع يشعر أو يدرك أن عدد من يخسرون في الكازينو أكثر بكثير مقارنة بمن يربحون، فإنه لا أحد تقريبا يهتم بهذه الحقيقة.. رؤية اللاعبين لغيرهم يخسرون يشبه رؤية قائدي المركبات لضحايا حوادث الطرق وأجسادهم أو جثثهم مرمية على أسفلت الطرقات وسيارتهم مهشمة تماما نتيجة السرعة، لكن الأغلبية لا تكترث بما تراه بل تستمر في سيرها وسرعتها».

٭ «الصمت في حياة المشرد أمر مقدس.. بل هو المقدس الوحيد، فالمشرد لا يود التحدث كثيرا لكي لا يعود بذاكرته لسابق أيامه ويحن إليها، فقد تركها خلفه وأصبحت شيئا من الماضي»

https://pdf.alanba.com.kw/desktop/pdf-viewer.html?file=/pdf/2020/02/19-02-2020/05.pdf

الارشيف

Back to Top