الحكومة والمواطنة والبداوة

الحكومة والمواطنة والبداوة (3)

كان غزو القبائل لبعضها في الجزيرة العربية المترامية الأطراف، ولآلاف السنين، أسلوب حياة ومصدر رزق وحيد، وتنفيس عن النفس، وعشق أبدي.

وحتى مع تأسيس دولتي نجد في الجنوب، والعراق الهاشمي في الشمال فإن القتال بين قبائل الطرفين لم تتوقف، وكانت من الأسباب التي دفعت بريطانيا، والسير بيرسي كوكس، للسعي لترسيم الحدود بين العراق ونجد والكويت، وتم ذلك في مؤتمر العقير، السيئ الذكر، العام 1922.

نجحت كل برامج توطين البدو في المنطقة، إما ترهيبا وتاليا ترغيبا، ووعدا بحياة أفضل. وكان لبريطانيا الفضل الأكبر في ذلك، حيث سعت دول المنطقة بناء على توصيات من ممثليها في المنطقة لضم القبائل قسرا للمدن والموانئ والمشيخات لكي يتم السلام بينها. تجربة الكويت، حتى بضعة عقود كانت الأفضل، حيث نجحت بشكل مميز في توطين أهل البادية وجعلهم جزءا من النسيج المدني للدولة وصهرهم مع بقية مكونات المجتمع، ورفع مستوى معيشتهم من خلال وظائف برواتب مجزية، واستملاك بيوت الكثيرين منهم تاليا. لكن "جهات ما" وجدت بعد فترة أن هذا الانصهار المتسارع بين مكونات المجتمع ليس من صالحها، فعملت على إعادة الاعتبار للقبيلة على حساب الدولة، بحيث يكون الولاء لشيخها، الذي أصبح، مع الوقت، ومع التسامح والقبول الحكومي، "أميرا".

كما حصرت الحكومة تلبية متطلبات أبناء القبائل بما يأتي لها عن طريق أميرها أو شيخها. وأعطته مزايا تجنيس من ينتمي لقبيلته، فحدثت فوضى عارمة في التجنيس، نتيجة تدافع شيوخ القبائل لمنح "الجنسية" لأكبر عدد من حلفائهم، للاستقواء بهم مستقبلا، وقبض "الثمن" من المتجنسين الجدد، دون اعتبار لحقيقة انتمائهم لهذه القبيلة أو تلك، وهذا ما دفعت الدولة برمتها وسندفع جميعا ثمنه كثيرا وعاليا وطويلا. كما أصبحت تلبية مطالب السكن والتوظيف والمزارع تأتي مسرعة متى كان ورائها نائب قبلي، وأحيانا طائفي.

كما سمحت الحكومة، أو شجعت التراجع عن عملية الصهر أو الاندماج العرقي والطائفي، الذي كان سائدا لعقدين تقريبا في مناطق سكنية مثل الدسمة وبيان والأندلس والعارضية وغيرها، وذلك بالموافقة على فتح الباب أمام "التطهير العرقي الصامت"، من خلال السماح ببيع البيت الحكومي، بحيث أتيح لأتباع كل جماعة، أو قبيلة او طائفة، الانتقال من منطقتهم السكنية التي سبق أن اختاروها لأخرى يكون لصوتهم الطائفي أو القبلي ثمنا أعلى.

وهكذا نشأت مناطق سكنية كاملة يتبع غالبية أو كل سكانها قبيلة واحدة أو الغالبية تتبع طائفة واحدة. وكان لهذا "التنظيف العرقي" السلبي آثاره المدمرة تاليا على العملية الانتخابية، وعلى تجذر القبلية والطائفية في النسيج الاجتماعي، بحيث أصبح النجاح في أية انتخابات من نصيب المرشح الأكثر تطرفا في قبليته أو طائفيته.

***

وربما يكون من أسباب اندفاع الحكم في الكويت باتجاه القبائل بالتزامن مع استقوائها بالإخوان المسلمين، خوفها "شبه الفطري" من دعاة الإصلاح وتلك المسماة بالقوي القومية، وممثلي قوى اليسار، وعلى رأسهم اشتراكي ناصر، وبالتالي وجدت الحكومة في اللجوء للقبائل والإخوان وأبناء الطوائف ملاذا لهم ضد من سبق ذكرهم. ولكن ثبت تاليا أن الاستقواء بالقبائل مكلف، والسكوت عن الطائفين خطرً عليها وعلى مدنية الدولة وعلى مؤسساتها "شبه الديمقراطية"، ككل.

***

واضح من كل ذلك أننا بحاجة ماسة، من أجل أمن وسعادة ورخاء الجميع، إلى إعادة الاعتبار والهيبة للدولة، وهذا ليس بالأمر السهل. فهذا لا يمكن أن يتم بغير توفير العدالة وعصرنة المناهج، ومحاربة الفساد!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top