حصاة شكري
ترك شكري قريته «مزيونة» والحزن يفتك به، بعد رفض والد «مليكة»، مالكة قلبه، طلبه الاقتران بها، لأنه فقير
معدم، وقرر في اليوم التالي الرحيل، بعد ان ضاقت الدنيا في عينيه، إلى «كازا»، المدينة القريبة، لعله يجد فيها عملا يشغله وينسيه بعضا من ولهه بمليكة!
أيام «كازا» لم تكن سهلة، كما تصور وتمنى، وخيال مليكة لم يفارقه، وعدم حصوله على عمل زاد من حزنه وشوقه لها، فلا وظيفة، ولا رفيق يؤنسه. بدأت النقود القليلة التي معه بالنفاد، ولا يبدو أن في الأفق أملا في إيجاد مورد رزق، وكان لا بد من فعل شيء، فالعودة خاوي الوفاض الى مزيونة أمر صعب جدا ولن يتحمل وطأته.
وفي يوم اعتقد ان رياح حظه قد تغيرت عندما التقى في المقهى البحري الذي يرتاده المهاجر السنغالي «أمادو»، فما أن توطدت العلاقة بينهما حتى اقنعه هذا بالمغامرة والهجرة معه للساحل الاسباني، حيث العمل والجنس والطعام الوفير!
مقاومة شكري للفكرة - على الرغم من خطورتها - لم تطل كثيرا، فقد كان على استعداد لفعل أي شيء، ولا العودة الى قريته خاوي الوفاض. ومن فوق ظهر مركب صيد متهالك، تحول لقارب تهريب أكثر تهالكا، وصلا مع عشرات غيرهما الى البر الاسباني بعد ساعات طويلة حسبوها دهرا، وهم يصارعون الموج ويفرغون ما في جوفهم من طعام، حتى خالوا أن مصارينهم ستخرج مع فضلاتهم. وهناك على الساحل الصخري استلقى وأمادو منهكين، فلم يكونا قادرين على التحرك خطوة واحدة!
كان الشاطئ صخريا وغير صالح للنوم، ولكن الإرهاق الشديد منعهما من الحركة، وحالف شكري الحظ في التقاط حصاة كبيرة مفلطحة كالوسادة، لم ير مثلها من قبل، فتوسدها وذهب في سُبات عميق. وعندما أفاق من نومه مع أشعة شمس الصباح نظر حوله فلم يجد غير أمادو يشخر والموج يتناغم مع شخيره في رتابة واضحة!
الخوف والجوع دفعاه الى أن يوقظ صاحبه لينطلقا، بحثا عن طعام ومأوى، ومن دون أن يشعر وضع الحصاة في حقيبة ملابسه المتهالكة والمبللة بماء البحر، ربما تفاؤلا، وربما لأنها كانت أول شيء صلب التقطته يداه على شاطئ أرض الميعاد الجديدة.
لم يمر أسبوع حتى حصل شكري وأمادو على عمل وسكن وثلاث وجبات لدى «بدرو»، صاحب مطعم صغير يقع على أطراف ساحل ماربيا. ولتفانيهما واستعدادهما للعمل حتى ساعات متأخرة من دون طلب أجر كبير، أجزل «بدرو» العطاء لهما. وقبل ان ينتهي الموسم السياحي قال لهما إنه عادة ما يغلق المطعم مع نهاية الموسم ليقوم بزيارة أهله، ولكنه سيتركه هذه المرة مفتوحا ليستخدماه، وانه لن يتأخر كثيرا.
بدأت افواج السياح بالتضاؤل، ثم اختفوا تماما مع تحول الطقس للبرودة. وما إن أصبح وقت فراغ شكري طويلا حتى عاد حنينه الى مليكة يعذبه، وأصبح النوم يفارقه لساعات، وانشغاله بهواية الرسم لم تسعفه في نسيان طيف مليكة، بل اصبحت رسوماته لا تعبر إلا عن ابتسامتها وملابسها وباب بيتها وأزقة حيها وشجرة حوشها.
وعندما غطت رسوماته جدران المطعم الاسمنتية، تذكر حصاته التي كانت وسادته الأولى في وطنه الجديد، فأحضرها وبدأ يحفر عليها بمسمار كل ما يذكره بمالكة قلبه من سهم يخترق قلبا داميا، إلى نجوم ورسوم مزركشة كثيابها، وحفر اسمها بعدة لغات واشكال، يرسم وهو يغمغم بينه وبين نفسه متسائلا: ترى هل سيتمكن يوما من العودة اليها، وأن يراها، فيوم غادر كانت مليكة مريضة، تشكو من سقم ما، فهل يا ترى شفيت؟
وانكب على مدى يومين كاملين يحفر ويرسم على أي شيء تقع يداه عليه، وكان أمادو يلاحظ شروده، ولكنه كان عاجزا عن فعل شيء مع محب ولهان، فآمال شكري بالعودة الى مزيونة ما هي إلا أحلام! كما أن أخبار مليكة التي كان أمادو يتلقاها بين الفترة والأخرى من رفاق تركهم خلفه في «كازا»، لم تكن تسر كثيرا، بعد أن اشتد عليها مرضها، وقضى على نضارة شبابها، ولم يطل الوقت قبل أن يرده خبر وفاتها، ولكنه لم يجرؤ على أن يخبر شكري بالأمر فهذا سيقضي عليه حتما.
ولكن لم يطل الوقت بالولهان المحب ليشعر، من تلميحات أمادو، بأن في الأمر ما يريب ولا يسر، ولكنه لم يجرؤ هو الآخر على السؤال أكثر. ومع الوقت، وتوقف أخبارها، تيقن أن شيئا قد ألم بمليكة، فإما أنها اقترنت بغيره، واما أن المرض أنهكها وقضى على حياتها، وفي كلتا الحالتين فقدها، وبفقدها فقد كل صلة له بالحياة، خاصة أن عودة «بدرو» قد طالت كثيرا، والطعام في مخزن المطعم بدأ بالنفاد، ورياح الشرق الباردة جعلت المعيشة صعبة عليهما، وأمادو يريد تركه ليزور أقاربه في مدريد، وقد لا يعود، وما تبقى معه من مدخرات بدأت بالنفاد، وكراهيته للعودة الى الوطن بدأت تزداد، وخوفه من معرفة حقيقة ما ألم بمليكة يكاد يقتله.
وفي ليلة أخذ حصاته المفلطحة وسار على الشاطئ حتى بلغ نقطة غير بعيدة عن المكان الذي وطئته قدماه لأول مرة، وهناك استلقى على الرمال الباردة، ووضع خده على الحصاة، وما هي إلا لحظات حتى تبللت بدموعه وهو يفكر ويتذكر وطنا فقيرا وحبيبة غائبة، ووالداً عاجزاً وأما مكلومة.
واستغرق في نوم لم يفق منه أبداً!