ماريو والزبيبة
يقول «مصري» عاش طويلاً، وخبر الكثير، وبلسان عشرات الملايين منا:
عشت سنوات الستينيات، وحتى جزء من السبعينيات في راحة نفسية، فطريقة تدين المجتمع كانت مريحة، فلم تكن هناك محجبات، بالمفهوم الحالي، إلا ضمن طبقة معينة، وكان اسم قطعة القماش التي توضع على الرأس «طرحة» أو منديل. ولم نكن نعرف رجالا والزبيبة تتوسط جباههم، ولم نشاهد رجلاً يرتدي جلابية قصيرة ولا نساء منتقبات. ولم تكن نساء الأسرة يعرفن الدروس الدينية إلا عند الحاجة أو الشيخ الفلاني، فالدين كان بسيطاً وواضحاً، كما كان حاله دائماً!
كما كان التثقيف الديني في التلفزيون مقتصراً على برنامج «نور على نور»، وليوم الجمعة، ومقدمه يرتدي بذلة أنيقة. وحتى في رمضان كان درس الوعظ لا يستغرق أكثر من دقائق، والكلام فيه كان هادئاً ومتسامحاً. ولم يكن زوارنا يأتون ويعملون ضجة في طلب سجادة صلاة، والسؤال بصوت عال عن اتجاه الكعبة، ويبالغون في إظهار الخشوع والتدين، وفي وسط الصالة غالباً!
كما ان العمل، وهو نوع من العبادة، لم يكن يتوقف للحاق بصلاة الظهر أو العصر، وكنا نحاول أداء فريضة الحج مرة في العمر، كما كان هناك جامع واحد في الحي، وكان يسعنا جميعاً، ولم يحرص أحد قط على دروس القراءة والتجويد، فالإيمان كان يملأ القلوب، ولم يكن لابن تيمية هذا الحضور، والغالبية لم تسمع به أصلاً، ولم تكن هناك تصنيفات الوهابية والسلفية والإخوان.. وخلافه.
كما لم يكن صوت القرآن يسمع بصوت عال في الشارع والتاكسي وأية صالة، ولا يلتفت له أحد! بل كنا عندما نسمعه ننصت له. كما لم يكلمنا أحد يوماً عن عذاب القبر والثعبان الأقرع. ولم تكن هناك أجور عالية تدفع لظهور رجل الدين على القنوات، ولا أموال تدفع بالهبل لترويج أفكارهم، كما هو الحال الآن، بعد أن أصبح الدين تجارة عظيمة، ولم تكن حكوماتنا متواطئة ولا مروجة للمذاهب وبث الفرقة بين أتباعها، أو بين المسلم والمسيحي، وبين المتدين والليبرالي، وبين المحجبة والمنتقبة أو تلك «المتبرجة»!
ولم نهتم يوماً بسؤال زملائنا في المدرسة عن ديانتهم، وكنا نؤمن بأن الأرض كروية، إلى أن جاء من يود إجبارنا على الإيمان بأنها مسطحة.
وينهي «المصري» كلامه بالقول بأن الإسلام القديم «وَحَشه جداً»، فقد تربى خلاله على مكارم الأخلاق وعلى يسر الدين، دون نفاق أو دروشة ولا زبيبة ولا جلابية قصيرة ولا ذقن طويلة، والادعاء والتخفي وراء كذب القول والتصرف!
***
يقول الشاعر البرازيلي ماريو دي أندرادي mário de andrade، الذي سبق أن كتبت عنه وعن قصيدته:
لقد عدت لسنوات عمري وأدركت أن لدي وقتاً أقل في الحياة مقارنة بما عشته حتى الآن. وأشعر بشعور ذلك الصبي نفسه الذي حصل على وعاء مملوء بالكرز، فبدأ يلتهم الحبات التهاماً، ولكن ما إن أدرك أنه لم يتبق سوى القليل منها حتى بدأ بتذوقها ببطء وبشكل أكثر إحساساً وتمتعاً بطعمها!
ليس لدي وقت لمحادثات لا تنتهي ولا فائدة من مناقشة حياة الآخرين الذين لا يعنيني أمرهم، ولا وقت لمراعاة حساسيات غير الناضجين، ولا رغبة لمواجهة أولئك الذين يتصارعون على السلطة، فقد أصبح وقتي نادراً ولا أريد إلا الجوهر، فروحي وثابة مستعجلة، وما لدي من كرز في وعائي قليل، وأريد أن أعيش بالقرب من البشر الذين يضحكون من عثراتهم، وبعيداً عن أولئك الذين أصبحوا متعجرفين، ولديهم ثقة زائدة بانتصاراتهم، وبعيداً عن أولئك الممتلئين بالأهمية الذاتية.
نعم، أنا في عجلة من أمري لأن أعيش بالقوة التي لا يعطيها إلا النضج، ولا أنوي إهدار أي من حبات الكرز المتبقية، وأنا على يقين من أنها ستكون رائعة أكثر من سابقاتها، فهدفي هو الوصول إلى النهاية بالرضا، وفي سلام مع أحبائي وضميري.
وكما يقول «كونفوشيوس»: لدينا حياتان، الثانية تبدأ فقط عندما ندرك أن لدينا واحدة فقط!
الخلاصة، الحياة قصيرة ولا حاجة إلى كل هذه المعارك الدينية!