بارادوكس علمائنا
«يفتخر البعض بعلماء العصر الذهبي في الإسلام، ويتبرأ غيرهم منهم، ولا يضع لهم أي اعتبار، ونعيش منذ الف عام في تناقض مستمر فيما يتعلق بموقفنا من هؤلاء»!
***
تطلق تسمية العلماء العرب أو علماء الإسلام، وهم لا هذا ولا ذلك، على «علماء دار الإسلام»، أي الذين ولدوا أو اشتهروا وأبدعوا في الحواضر الإسلامية، خلال عصر الخلافة العباسية، ولم يكونوا بالضرورة من المسلمين، قلبا وقالبا، لسبب أو لآخر.
لذا نجد أن غالبية رجال الدين المحافظين، عبر تاريخ الدعوة، لم تنظر يوما بوقار أو احترام لغالبية هؤلاء، إن لم يكن لجميعهم، ولا تعتبرهم علماء أصلا، بل مجرد زنادقة ملحدين كفرة فجرة، دون أدنى اعتبار لما قدموه للبشرية من علوم غير مسبوقة، وقد انعكست هذه الكراهية أو الرفض في صور جلية تمثلت في شبه انعدام إطلاق أسماء هؤلاء على أي من دور العبادة أو العلم أو المعاهد والمدارس والمختبرات، وهذا خلق نوعا من البارادوكس paradox أو المفارقة المحزنة، فمن جهة يود البعض الافتخار بهم كمسلمين؛ وسابقين غيرهم في مجالات كثيرة، وتود جهة أخرى رؤيتهم غير ذلك وعدم إسداء أي فضل لهم، ونسيانهم تماما واعتبارهم غير مسلمين اصلا، وليس أدل على ذلك من النهاية المأساوية التي انتهت بها حياة كل هؤلاء الأفذاذ! فكل من حكّم عقله، قديما وحديثا، اتُهم بالزندقة والكفر والإلحاد من قبل غالبية رجال الدين، قتلوا شر قتلة، خوفا من سقوط مكانة رجال الدين واضمحلال سلطتهم، القائمة أساسا على النقل، دون تفكير!
***
ورد في مقال للأستاذ «هلال عون» بعنوان «عباءة الدين والنفاق عبر التاريخ»، أن من الشواهد والمشاهد من تاريخنا التي تدل على محاربة رجال الدين للعقل مواقفهم من ست شخصيات تعتبر من الأرفع علميا وفكريا في تاريخ الاسلام، وقد يكونون الأهم ممن سنذكرهم وغيرهم.. فقد عُرف «ابن حيان» بأنه أول من استخدم الكيمياء عمليا في التاريخ، ولقب بـ«أبو الكيمياء»، لكنه لم يسلم من تهمتَي الزندقة والكفر، حيث يقول عنه ابن تيمية إنه مجهول، لا يعرّف، وليس له ذكر بين أهل العلم والدين. ولو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحرا من كبار السحرة في هذه الملة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. ولم يسلم من عقله التكفيري عالمٌ.
أما الفارابي، الملقب بـ«المعلم الثاني»، أسوة بالمعلم الأول «أرسطو»، فإن رجال الدين اتفقوا على كفره وزندقته.
ثم يأتي دور كبيرهم «ابن سينا»، الذي وصفه ابن القيم الجوزية بـ«رأس ملاحدة الملّة»، «إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر». كما كفّره الغزالي، ووصفه الكشميري بـ«الملحد الزنديق».
أما الكندي، الملقّب بـ«مؤسس الفلسفة العربية الإسلامية»، فقد تعرض لانتقاد لأنه رأى أن العقل هو جوهر التقرب من الله. واعتبره الكثيرون «منجما ضالا متهما في دينه».
أما العالم «ابن رشد» فقد اعتبره الحافظ الذهبي وابن تيمية «فيلسوفا ضالا ملحدا»، وانه حاول التوفيق بين الشريعة وفلسفة أرسطو، وهو في موافقته هذه وتعظيمه لأرسطو وشيعته «أعظم في كفره من ابن سينا»، لأنه انتصر للفلاسفة الملاحدة في «تهافت التهافت»، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، وإلحادياته مشهورة.
أما ابن الهيثم فلم يسلم من التسفيه، واعتبر ملحدا خارجا عن الإسلام كأمثاله من الفلاسفة. وكفّره ابن تيمية ووضعه مع الخارجين عن الإسلام، من أقران ابن سينا علماً وسفهاً وإلحاداً وضلالاً!
وسيطول الحديث إذا ما فتحنا ملف بيت الحكمة العباسي، وكم من المترجمين والورّاقين والنسّاخ عملوا فيه ونقلوا آداب البشرية وعلومها إلى العالم الإسلامي وطواهم النسيان ولم يذكرهم أحد، وعلى سبيل المثال لا الحصر فهم بالعشرات، نطالع ما قدمه حنين بن إسحاق المسيحي النسطوري من أصول عبرانية، وهو من أهم علماء ومترجمي عصره ويتقن العربية والسريانية والفارسية واليونانية، حيث عرفنا منه أعمال جالينوس وأبقراط وأرسطو وأول من ألف مخطوطة تشريح العين.. كما ترجم جرجيس بن بختيشوع (وهو سرياني عاش في الأحواز) الكثير من كتب الطب اليونانية.. وأحضر يوحنا بن ماسويه (وهو مسيحي أحوازي) كتب الحكمة اليونانية ونفائس الكتب من قبرص. ولدينا أيضًا ممن طواهم النسيان جبرائيل الكحال، والحارك المنجم، وسلمويه بن بنان، وموسى بن إسرائيل، وميخائيل بن ماسويه، ويوحنا بن البطريق وغيرهم العشرات من علماء الطب والفلك والجغرافيين والفلاسفة.. الذين أنكرنا فضلهم في كل مقرراتنا، ومنعنا تدريس سيرتهم في مدارسنا كأهم وأبرز العلماء.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw