عظمة الـ«بي بي سي»
أستمع إلى «بي بي سي bbc» باللغة الإنكليزية منذ أربعين عاماً، بصورة يومية، تعلمت خلالها الكثير منها، ولا أزال وفياً لها، خاصة وأنا في السيارة، وهي بنظري الأفضل خاصة في أوقات الأزمات والكوارث، وما أكثرها في بلداننا، وبسببها استغنيت عن مشاهدة التلفزيون منذ عقود، وأعتقد أنها كانت ولا تزال في منتهى الموضوعية، ودليل ذلك الهجوم الذي تلقاه من طرفي أي نزاع، واتهامها بالتحيز من كل طرف للطرف الآخر!
سمعة ومصداقية شقيقتها العربية، التي نادرا ما استمع إليها، إما لسطحية ما تبث أو لتكرار وقوعها في الأخطاء، ولم أفاجأ بقرار وقف بثها، بعد 84 عاما، إضافة لوقف البث بلغات أخرى كالتركية والروسية.
اكتسبت الـ«بي بي سي» شهرتها، وزاد أعداد المستمعين لها بالعربية أثناء الكوارث والأزمات التي كانت تمر بها المنطقة العربية، حيث كانت الإذاعات العربية الأخرى غير موضوعية في تغطيتها لأخبار تلك الكوارث والحروب، ولا أزال أتذكر مبالغات ومغالطات «أحمد سعيد».
كما كانت شبه حيادية الـ«بي بي سي»، مقارنة بغيرها، تجعلها صادقة أكثر خاصة في تغطيتها للحروب العربية الإسرائيلية منذ حرب 1948 مرورا بحروب 1956، و1967، وحتى 1973.
وفي كتاب «إعادة الظهور الاستعماري» كشفت المؤلفة «كارولين ريتر»، المتخصصة بدراسة تاريخ الإمبراطورية البريطانية، أن تقنيات الراديو، الجديدة آنذاك، وضعت في خدمة مصالح الإمبراطورية. وأن بريطانيا بعد أزمة السويس عام 1956 بدأت تتعامل مع قضية إنهاء الاستعمار من خلال توجيه خطابها للجماهير والسكان الأصليين في أفريقيا، وأنها مع قضية استقلالها، وهذا وضعها في موقف الدفاع عن موقعها والتنافس مع المحطات المحلية على جمهور ما بعد الاستعمار، الذي أصبح أكثر أهمية!
***
يقول الصديق والزميل «سمير عطا الله» إن العالم العربي لم يستطع، خلال 80 عاماً، إنشاء إذاعة موازية لـ«بي بي سي»، شيخة الإذاعات، على الرغم من امتلاكه أفضل الإمكانيات والموازنات، ولكنها لم تمتلك لا الحقيقة ولا الثقة ولا الموضوعية. وإن العرب، طوال ثلاثة أرباع القرن كانوا يكرهون الـ«بي بي سي» ولكن لا يصدقون سواها، فالحدث الذي لم تعلنه لم يقع، والزعيم الذي لم تنعه لم يمت. وفي حين كانت إذاعاتنا تتوج وتموج وتعتبر أن الصوت الجهوري هو صوت الحقيقة لم يعلُ صوت مذيع واحد من «هنا لندن» ولا بثت شتيمة واحدة، وظلت دَقات «بيغ بن» هي المقياس.
***
وتعليقا على خبر استغناء المحطة عن موظفيها، كتب الإعلامي الفلسطيني «عرفان عرب» مقالا مطولا عن تجربته مع الـ«بي بي سي»، التي كانت تحتضر، حسب قوله، منذ سنوات، وكيف أنه أمضى 15 عاما يعمل بها، ووصف تجربته بأنها لم تكن تستحق الافتخار، وكانت الأسوأ، لأنها حسب وصفه: «أسوأ مؤسسة إعلامية عمل فيها»، واسم خاوٍ من محتواه، وينطبق عليها المثل الفلسطيني الشهير: «من برّا رخام ومن جوّا سخام»، وتتحكم بها جنسية أو اثنتان، ووصفها بالمسمومة، وقوامها وأساسها التمييز بشكل ممنهج ومحترف! إلى غير ذلك من انتقادات حادة!
والسؤال ما الذي جعله يبقى فيها كل هذه المدة ويقبل العمل في جو مسموم أساسه التمييز الممنهج؟.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw