متى نعيد الاعتبار لهم؟
يعود تاريخ «معاهدة الفضاء الخارجي»، التي نظمت أنشطة دول العالم في ميدان استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام الأخرى، إلى عام 1967. وعلى الرغم من أن أميركا وروسيا نثرتا أعلامهما على سطح القمر، فإن المعاهدة تنص على ملكيتنا جميعاً للقمر، وعلينا بالتالي أن نعرف شيئاً عنه.
نحن نرى فقط وجهاً واحداً للقمر، أما الآخر الذي نسميه بالمظلم فلا يراه إلا رواد الفضاء.
بخلاف كوكب الأرض، فليس للقمر غلاف جوي، ونتيجة لذلك لا رياح ولا أمطار ولا زلازل فيه؛ لذا بقيت تضاريسه ثابتة لم تتغير، ويستدل العلماء على مناطقه بالفوهات العظيمة craters، التي تنتشر على سطحه، والتي نتجت عن سابق اصطدامات كويكبات ومذنبات به.
ولتسهيل معرفة جغرافية سطح القمر قام الإيطالي جيوفاني ريتشيولي (1598 –1671)، القس الكاثوليكي وعالم الفلك، وله أبحاث علمية قيمة، بإطلاق أسماء عدد من العلماء على تلك الفوهات، واستمر هذا التقليد حتى اليوم، حيث يقوم «الاتحاد الفلكي الدولي» بهذه المهمة، وقام مؤخراً بإطلاق أسماء ثلاثة علماء صينيين على ثلاث منها.
باستعراض أسماء الـ1600 عالم تقريباً، الذين أُطلقت أسماؤهم على فوهات القمر، نلاحظ قلة أسماء النساء بينهم، مع زيادة ملحوظة لأسماء علماء عرب ومسلمين، ولكن للأسف لم يسمع %99 من شعوبنا بهم من قبل، كأبي الفضل بن مروان الفلكي الشهير، وأبو الفداء حاكم حماة والجغرافي والفلكي البارز، وحتى عبدالرحمن الصوفي عالم الفلك، حيث لا ذكر لهم تقريباً في كل مقررات المدارس، والمكتبات ودور العلم والبحث، على قلتها، هذا غير عدم الاكتراث بمعرفة من يكون البيروني وابن رشد والخوارزمي وابن سينا وابن الهيثم، وعالم الفلك الشهير عمر الخيام، الذي لا نعرف عنه غير رباعياته وخمرياته، ولا شيء عنه، كونه عالم رياضيات كبيراً، ساهم في وضع أحد أدق التقاويم، كما اكتشف طريقة هندسية لحل المعادلات.
ومن الأسماء الشهيرة الأخرى، التي أطلق اسمها على فوهة كبيرة، الخليفة المأمون الذي لم تركّز كتبنا إلا على مجونه، حيث يعتبر عصره الأزهى في تاريخ حضارة دار الإسلام، والأكثر انفتاحاً على المبدعين غير المسلمين، وهذه ربما يراها البعض خطيئته، فقد كان المأمون مُحِبّاً للعلم والأدب وشاعراً وأديباً، وكان العلماء لا يفارقون مجلسه، وكان السبب وراء انبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد إلى العالم، فهو من جمع تراث اليونان القديم، ووظف المترجمين لنقل كتبهم للعربية، وأنشأ مجمعاً عِلْمِيّاً في بغداد، ومرصدين لرصد الكواكب، وأمر برسم خريطة جغرافية كبيرة للعالم. كما شجع الترجمة، ونقل علماؤه العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، وأفادوا منها وطوروها، ومن هؤلاء حنين بن إسحاق الطبيب البارع. كما ترجموا كتب أرسطو وأفلاطون إلى العربية. وكان الطبيب يوحنا بن ماسويه يشرف على «بيت الحكمة» في بغداد، وكان يؤلف بالسريانية والعربية، كما كان متمكناً من اليونانية، وله كتب عديدة. والمأمون هو الذي أمر بنسخ كتاب الخوارزمي في الجبر، مسدياً خدمة علمية كبيرة للبشرية. كما استعان بعلماء ومترجمين نسطوريين وصابئة ويهود ومسيحيين ومسلمين لتزويد مكتبة بيت الحكمة بنفائس المخطوطات، وكلفهم بترجمة كل آثار اليونان، التي نقلها العلماء الغربيون تالياً من العربية.
***
الإصرار على تجاهل علماء الأمة الحقيقيين، وليس علماء حفظة الكتب الدينية، أمر مخجل بالفعل ومدعاة للحيرة، فكيف استطاع مجموعة من محدودي الذكاء والمعرفة إقناع سلطات غالبية الدول العربية والإسلامية بـ«تناسي» هؤلاء العلماء، وطمسوا سيرهم، وتجاهلوا منجزاتهم، في الوقت الذي يفتخر العالم المتحضر بهم، ويطلق أسماءهم على نجوم وكواكب ومجرات الكون، وعلى فوهات القمر، وعلى مبانٍ ومختبرات وجامعات ومعاهد ومكتبات، إنه جحود ما بعده جحود، وسببه أن هؤلاء العلماء الحقيقيين كانوا يعتبرون بنظر ورأي العلماء المزيفين.. زنادقة، أو لأن بعضهم من غير المسلمين!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw