مجتمعات النفاق والجهل والتخلف
يعتقد البعض أن مجتمعاتنا تعيش حالة من النفاق. ويعتقد غيرهم أنها تتسم بالجهل! وأعتقد، وقد أكون على خطأ، أننا نعيش الحالتين معاً، وبشكل لا وجود له في أي مجتمع آخر!
***
كنا في بداية استقلال الدولة، وسبق أن عشت تلك السنوات بكل جوارحي، مجتمعاً سعيداً، قليل العدد، منفتحاً، به اختلافات دينية مذهبية عرقية، ولكنها كانت مقبولة ومحمولة، ولم نكن نختلف في ذلك عن بقية دول العالم، بل كنا أفضل منهم! كما كان المجتمع في جزء صغير منه شديد المحافظة، مصراً على التمسك بطريقة عيشه، راضياً بحاله، وكنا نتقبل خيارهم، مؤمنين بأن الزمن سيصهرهم في النهاية مع الأغلبية، كما حدث مع الجميع!
***
دخل المال السياسي، فخربت النفوس، ونتجت عن ذلك تغيرات كبيرة في المعادلات والقواعد، بحيث تحولت الأغلبية، التي كانت تاريخياً الأكثر تسامحاً وتطوراً وتقدماً، مع الوقت، إلى أقلية لا تتجاوز نسبتها %25، وأصبحت أكثر ميلاً للمحافظة. أما التي كانت أقلية، فقد أصبحت تمثل الأغلبية، وصاحبة الصوت الأعلى. وكلما زاد عددهم زاد تحفظهم، وانطواؤهم على أنفسهم، ورفضهم للآخر.
وحدث كل ذلك نتيجة عوامل أربعة رئيسية:
1 - التجنيس السياسي الذي قامت به جهات متنفذة في الدولة، والذي اتجه نحو فئة بذاتها ، معينة أساساً، بغية ترجيح وضعها السياسي، وفرصها في السلطة، وأيضاً بغية تغيير تركيبة المجتمع.
2 - الأموال الضخمة التي دفعت لأطراف عدة متنفذة لشراء الجنسية، وما صاحبها من تزوير شامل للمستندات والإثباتات، واختيار غالبية من حصلوا على الجنسية من هؤلاء الانتماء للجزء المحافظ من المجتمع.
3 - ارتفاع معدلات التوالد في المجتمعات المحافظة بشكل كبير مقارنة بالجزء الحضري منه.
4 - الاهتمام الذي أعطته السلطة لفئات معينة، على حساب الدولة المدنية، فأصبح الولاء لها، وقبول بتقاليدها المحافظة.
***
أدت العوامل الأربعة أعلاه وغيرها، مع الوقت، إلى تعميق الهوة بشكل كبير وخطير بين مختلف مكونات المجتمع، وزيادة الاضطراب السياسي، وفقد «شبه كامل» لبوصلة اتجاه الدولة، فأصبحت القرارات الحكومية ترضي المحافظين تارة، وترضي الليبراليين تارة أخرى، وأصبح المجتمع يعيش في حالة غريبة، مع تحكم خليط من الجهل والنفاق، الذي يندر وجوده في أية دولة أخرى، على اتجاهاته، فلا نحن دولة مدنية ولا دولة دينية، ولا نحن دولة ديموقراطية ولا دكتاتورية، ولا منفتحة ولا منغلقة، بل خليط من الجهل والنفاق الذي يشرح حالة «التوهان» التي نعيشها جميعاً. فمن ينادِ بالاهتمام بأمور الثقافة والتركيز على قضايا الأخلاق الحقيقية لا يجد من ينصت إليه، ومن ينادِ بترك رعاة الإبل وماشيتهم يرعون في المحميات الزراعية وبين المنشآت النفطية، يجد من يهتم بأمرهم.
كما نجد نواباً يتقدمون باقتراح بقانون لتعديل المباني القائمة في الجامعة والتطبيقي، لضمان منع الاختلاط بين الجنسين، لأن اختلاطهما نوع من الظواهر السلبية. أما وجود هيئة لطباعة القرآن، تكلف الدولة منذ 12 عاماً ملايين الدنانير ولم تطبع نسخة مصحف واحدة، وليست لديها مطبعة أصلاً، فوضعها لا يمثل «ظاهرة سلبية»، لأن القائمين عليها معظمهم من «نفس طينة» المطالبين بالفصل الجامعي الجنسي. وهؤلاء أنفسهم وغيرهم سبق أن سكتوا عن تحميل المال العام عشرات الملايين غيرها في صورة رواتب ومبانٍ وخدمات لهيئة شكلت لإعادة النظر في القوانين وأسلمتها، وفشلت، على مدى عشرين عاماً، في تقديم فكرة أو رأي واحد، ومع هذا لم ينتقدها المتشددون، ولم يعتبروا أفعال مجلس إدارتها «ظاهرة سلبية»، وأيضاً لأنهم من «ربعهم»، علماً بأن قيادي في تلك الهيئة أصبح أخيراً رئيساً للإخوان في الكويت، وهو الذي لم «يستحرم» يوماً ما كان يقبضه ومجلس إدارته مقابل القيام بـ«لا شيء»!
***
إن زيارة واحدة لأي مركز تسوق تكفي لملاحظة التشتت الثقافي والتعليمي والأخلاقي الذي يعيشه المجتمع، ومدى اتساع الهوة بين مكوناته. وربما لا يعلم غالبية هؤلاء أن المجتمعات الأكثر تديناً في العالم هي أيضاً الأكثر فساداً في الإدارة، والأكثر ارتشاء في القضاء، والأكثر كذباً في السياسة، والأكثر هدراً للحقوق، والأكثر تحرشاً بالنساء، والأكثر اعتداء على الأطفال، ويكررون بعدها أن سبب فساد الأخلاق يعود إلى ضعف الدين!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw