المستوصف الصغير و«البيت» الكبير
استغل الكثير، على مر التاريخ، طيبة البعض، وحبهم للتبرع للأعمال الخيرية، إما ابتغاء لأجر أو لمجرد الرغبة في عمل الخير، استغلوا ذلك لتحقيق ثروات هائلة لأنفسهم، إما استغلالاً لنص ديني يسمح لهم باستقطاع نسبة لأنفسهم، أو بعذر تمويل حملات جمع التبرعات لأعمال الخير، فعاشوا حياة بذخ غير معقولة، وامتلكوا طائرات خاصة ومنازل فخمة بممرات جوية وجداول نهرية، ويخوت بحرية، سواء كانوا رجال دين أميركيين أو شيعة أو سنة، فلا أحد تقريباً يعلم حقيقة مصير ما قاموا بجمعه تحت هذه التسمية أو تلك، منذ قرون، ولا أين صرفت، والشيء الوحيد شبه المؤكد أن تلك الأموال لم تساهم، باعتقادي، على مدى قرون، في تحسين معيشة من يفترض أنها جمعت لأجلهم!
الكويت ليست استثناء، وخير دليل العدد غير المعقول للجمعيات واللجان «الخيرية»، المتكررة الأهداف، التي تتبع في أغلبيتها، جهتين حزبيتين متنفذتين، وتتحكم بأموال طائلة!
***
بعد نشر مقالي الأخير عن التلاعب، الذي تلجأ إليه بعض الجهات، لجمع أكبر قدر من أموال المحسنين، اتصل بي طبيب معروف، وأخبرني بالقصة المحزنة التالية:
حضر استشاري عالمي إلى الكويت في زيارة قصيرة لتقديم العلاج والمشورة الطبية لعدد من المرضى. بعدها طلب الاختصاصي من صديقي الطبيب أن يجد من هو على استعداد للتبرع لبناء مستوصف صغير في دولة أفريقية مسلمة، يقوم بزيارتها بضع مرات كل عام لتقديم العلاج المجاني لمرضاها، لأنه يقوم بعملياته غالباً في خيمة!
اتصل الصديق بأحد مرضاه الموسرين، وشرح له الأمر، فقام هذا بالاتصال بـ«جهة خيرية» معروفة، وطلب منها، كونه من كبار المتبرعين لها، دراسة طلب التبرع بعد أن قدم لها متطلبات البناء الأولية!
أتت موافقة مجلس الإدارة سريعاً، بعد أداء صلاة الظهر، ورصد للمشروع 450 ألف دينار!
بشر الطبيب الكويتي صديقه الأوروبي بموافقة «الجهة الخيرية» على تحمّل تكلفة البناء. صعق الاستشاري من ضخامة المبلغ المرصود، وطلب إمهاله فترة للتيقن من التكلفة الحقيقية، وعاد، «المسيحي الكافر»، بعد فترة ليخبر صديقي بأن تكلفة المستوصف لن تزيد كثيراً على 90 ألف دينار، فقرر المحسن الكويتي الثري تحويل المبلغ للاستشاري الأوروبي، ليقوم من طرفه ببناء المستوصف، وهذا ما تم في نهاية الأمر! ولكم استنتاج ما يخطر على بالكم من هذه القصة!
***
لدى اللجان الخيرية، كما هو الانطباع العام، موارد مالية ضخمة، كما هو الحال مثلاً مع «هيئة الوقف» الحكومية، وهذه الأموال تتطلب إدارتها وتنميتها خبرة مالية واستثمارية محددة، لكن أغلبية هذه الجهات تسلم أموالها لـ«رجال» صفتهم الوحيدة أنهم من المنتمين إلى جهات دينية حزبية، وغالباً لا دراية لديهم بفنون وطرق الاستثمار، وإن حدث أي خطأ إداري فإنهم غالباً ما يقومون بالتستر بعضهم على بعض، ولا أدري لماذا لا يدير أموال الوقف خبير مالي استثماري، بدلاً من رجل دين، كل صفاته أنه من «أهل الله»؟ ولماذا لا تفرض وزارة الشؤون على هذه الجمعيات اختيار أعضاء مستقلين، من غير «أهل الله»، ليكون لهم رأي في ما يجري في مجالس إدارات هذه الجمعيات؟ فقصص الاستغلال والانحياز الحزبي وسوء الإدارة كثيرة، في ظل غياب كل قواعد الحوكمة ومتطلبات الشفافية في أغلبيتها!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw