الطبع والتطبع والبليهي

لن يكون غريباً أن تجد عالم فيزياء يقف خاشعاً أمام تمثال بوذا، أو طبيباً هندوسياً يقدس بقرة، بعد أن «تطبع» كل منهما في طفولته بما كان الأسبق إلى قابلياته، أو ذاكرته، التي يولد بها فارغة، ليصبح هذا التطبع هو ذاته. فالإنسان هو ابن عاداته، وليس من الضروري أن تكون تلك العادات منطقية أو حتى ضرورية.
 
يقول المفكر السعودي الكبير إبراهيم البليهي إن التطبع هو أشد العادات رسوخاً، ولهذا لا توجد مسافة بين المتطبع وبين ما تطبع به، فلا يتنبه إلى ما فيه من خلل مهما بلغ ذكاؤه ومهما اتسعت معارفه، إلا في حالات نادرة استطاع فيها البعض الانسلاخ عن سابق طبعهم أو تطبعهم.

كما أن قابليات الدماغ البشري وآليات نشاطه قد جعلت البشر محكومين بالأسبق إلى أدمغتهم، مهما كان محتوى واتجاه هذا الأسبق، وهذه أكبر معضلة تواجه المجتمعات المتواضعة التقدم، حيث تبقي شعوبها، على المستوى الفردي، في مرتبة أدنى، بفارق هائل، عن مستويات الدول المتحضرة!

فبالرغم من عظمة الأفكار المتاحة وبالرغم من دقة وشمول العلوم، فإن الجهل البنيوي ما زال يتحكم بالعقل البشري في الغرب والشرق، فعالم الفيزياء تطبّع قبل بزوغ وعيه بالعقائد البوذية، بينما الطبيب تطبّع في طفولته بالعقيدة الهندوسية، وهكذا مع معتنقي العقائد الأخرى، فصار هذا التطبّع هو أداته في الحياة، والعدسة التي يرى العالم من خلالها.

إن الرؤية الفاحصة تتطلب وجود مسافة مناسبة، ولانعدام المسافة بين الفرد وما تطبع به، فإنه لا يرى سوءات أو عيوب ما تطبع به، وبالتالي لن تفيده حدة ذكائه ولا اتساع معارفه، فلكي يمكن رؤية الوجه في المرآة يجب علينا أن ننفصل عنها بمسافة مناسبة، فوجود هذه المسافة شرط للرؤية الفاحصة.
***
لا توجد كلمة لها فضل على البشرية أكثر من كلمة «الشك». لذلك، تطالبك أغلبية العقائد بأن تلتزم الصمت وتؤمن من دون سؤال!

فقد عاش الإنسان لعشرات آلاف السنين بجانب الأنهار، ولم يحاول يوماً معرفة من أين تأتي مياهها. أو يتساءل عن سبب إصابة قوم بأمراض معينة، ولماذا لا يصاب غيرهم بها. ولماذا نشعر بالحرارة ثم البرودة، ونمرض ونموت! ولماذا لم يكن من الممكن نقل دم شخص إلى شخص آخر، أو الأسرار الكامنة وراء آثار الفراعنة مثلاً، أو ماذا يكمن وراء البحار والمحيطات والجبال، إلى آخر ذلك من تساؤلات، وفاز بالإجابات من كان جسوراً. فبحيرة فيكتوريا كان يمكن أن تكون بحيرة الخليفة فلان لو كان مكتشفها من ربعنا، وهكذا!

يقول ديكارت: أنا أشك وأعلم أنني أشك، وبالتالي أنا أفكر، وما دمت أفكر، فأنا موجود، وحالة الشك أكدت وجودية الإنسان، لكن وجود هذا الإنسان هو وجود ناقص، ووجود فكرة النقص في العقل أوجد مقابله «الوجود الكامل»، فلا يعقل أن يكون الناقص مصدراً للكمال.

ويقول ديكارت: إذا أردت أن تكون باحثاً صادقاً عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشك، ولو لمرة واحدة في حياتك، بكل الأشياء.

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top