نظرة خارجية إلى لبنان
عرفت لبنان في سن مبكرة، ورأيت دماء سياسييه ومفكريه تسال في حروب عبثية، ففي 1958 اغتيل الصحافي نسيب المتني، وتبعه، وربما انتقاما لمقتل الأول، النائب والوزير نعيم مغبغب! وتعودت من يومها على رؤية منظر الجنود المدججين بكامل أسلحتهم في شوارعه.
طبيعة لبنان الجميلة وغرابة تاريخه دفعتاني مبكرا الى التعلق به ومحاولة التعرف عليه، وبالتالي زيارة مناطقه، المتفردة بأسمائها، وقادتني الظروف الى قرى واحياء لا تعرف الدولة، ولا تعرفها الدولة، حتى يومنا هذا، فهي من دون كهرباء، ولا طرق، ولا أمن، ولا ماء، حتى الإرسال الإذاعي لا يصلها، والنقال يخرس فيها، بالرغم من ان مساحة لبنان لا تزيد كثيرا على نصف مساحة الكويت.
جولاتي تلك بينت لي أمرا غريبا يتعلق بتاريخ لبنان ودياناته وطوائفه وأعراقه، فقلة من اللبنانيين يعرفون تاريخ وطنهم، أو حتى يكترثون لمعرفته، فالمصادر الرسمية ومناهج المدارس شحيحة بمثل هذه المواد، فلا أحد تقريبا يعرف لم يسمى الدروز بـ«بني معروف»، أو يلقب الشيعة بأبناء جبل عامل أو بالمتاولة، أو المتوالين، ولمن؟ أو من أين جاء الموارنة، ولم اختاروا، مع آخرين، لبنان وطنا وقمم الجبال الوعرة مسكنا، حيث لا طعام ولا شراب؟ كما لا احد تقريبا يعلم لماذا تتعدد الديانات والطوائف ضمن ابناء الأسرة الواحدة؟ ولماذا هناك زعامات وأمراء سنة ودروز غيروا مذاهبهم ودياناتهم؟ وما هي حقيقة تاريخ الشيعة في لبنان؟ ولماذا كانوا مصدر الهام لصفوي ايران؟ ومن هو يوسف بك كرم؟ ولماذا كان أهالي «دوما» روما، وهي التي تقع في بحر ماروني؟ ومتى جاءت أولى موجات الأرمن والأكراد إلى لبنان؟ وما هي حقيقة الأحباش؟ أو من يعرف شيئا عن «عرب بني خالد»؟ ولماذا هناك مثلا قرى شيعية ضمن بحر مسيحي وعكس ذلك في الجانب الآخر؟
وما هي حقيقة حروب ابراهيم باشا؟ ودور الأتراك في تهجير الشيعة والمسيحيين وتقريبهم للسنة وتقريب الفرنسيين للموارنة على حساب غيرهم؟ ومئات الأسئلة الأخرى التي لا أحد يمتلك اجابات عليها، مما يعني ان هناك اتفاقا ضمنيا على ابقاء الكثير من أحداث التاريخ، خصوصا ما تعلق منها بالصراعات الطائفية والحروب الأهلية، طي الكتمان، وتجنب تدريسها في المدارس الحكومية، اما لحساسيتها، أو لعدم الاتفاق على تفاصيلها، فكيف يمكن كتابة تاريخ بلد بكل هذا التعدد الطائفي، والتعقيد الديني من دون الإساءة إلى طرف على حساب آخر؟ وعلى من يرغب في معرفة المزيد عن أي طائفة أو ديانة اللجوء إلى المكتبات. وقد ساهم هذا التجهيل الرسمي المتعمد، بالرغم من منطقيته، في إضعاف الشعور الوطني بين اللبنانيين الذين لم يشتهر عنهم وقوفهم، ولو لمرة واحدة، متحدين ازاء عدو أو قضية واحدة، فواقعيتهم، وليس وطنيتهم، هي التي أبقتهم في وطن واحد. وإلى مقال الغد.