الوهم المترسخ
أبدى كثيرون تفاؤلهم بالعهد الحكومي الجديد، وتوقعوا الأفضل، وهذا ما نتمناه، لكنه لا يختلف عما سبقه من عهود حكومية، منذ نصف قرن، فيما يتعلق بموقفه من التعليم. فلا جهة حكومية أبدت يوما أي اهتمام أو قلق بما يواجهه نظام التعليم من انهيار شبه تام، دون أية مبالغة، مع علم البعض بالأسباب، مع عدم رغبة أي طرف بالحديث في ما يكدر، ويفضلون الهروب للأمام من خلال دغدغة مشاعر المواطنين بالحديث عن زيادات الرواتب وتحسين الطرقات، وزيادة عدد المواد المدعومة، غير مدركين أن تدني مخرجات التعليم كافٍ للقضاء على أي أمل في التقدم، فلم يكفنا تجاهل كل أجهزة الدولة لفضيحة تورط 40 ألف طالب وطالبة في عمليات غش كاملة في الاختبارات الأخيرة، بل يأتينا محمد هايف، النائب في البرلمان، ويبدي زعله لأن الكنديين قاموا بفصل عدد من الطلبة الكويتيين من إحدى الجامعات الكندية بسبب تلبسهم بالغش!
لا ينفي الأخ النائب واقعة الغش، بل فقط يقلل من خطورتها، وكأنه يود أن يكون الكنديون مثلنا، بلا دم ولا خجل، عندما يتعلق الأمر بجريمة غش في الامتحانات، وعدم اعتبارها من الأمور المعيبة، والتي تشكل بنظرهم جريمة يعاقب عليها مقترفها. ويصب النائب (المشرع) جام غضبه على ملحقنا الثقافي في كندا، لعجزه عن التدخل في الأمر!
ويأتي بعد كل ذلك من يتساءل، باستغراب غبي، عن أسباب تخلفنا، حتى عن عشرات الدول التي كنا يوما نسبقها بمراحل، في كل شيء وفي كل ميدان!
***
تعتبر فنلندا من أصغر اقتصادات أوروبا الغربية، وكانت تعاني قبل أربعة عقود مشكلات اقتصادية وتنموية هائلة، ولكن بعد وضع خطة محكمة أصبح وضعها أفضل بكثير، وكان عماد الخطة تغيير التعليم الذي أثار دهشة الدول كافة تقريبا، وهي الخطة التي بدأت قبل 40 عاما، عندما شعرت حكومتها بأن ما تواجهه الدولة من أزمات، حتى الاقتصادية منها، لا يمكن أن تحل بغير إحداث نقلة نوعية في التعليم، فقررت السير في ثورتها، على الرغم من أنها تتطلب سنوات طويلة من العمل الجاد والمكلف، وخلال جيل أو أكثر قليلا ظهرت نتائجها التي بينت أن تلامذة فنلندا هم الأفضل في العالم في مادة القراءة. وبعدها بثلاث سنوات أصبحوا الأفضل في العالم في الرياضيات، وفي 2006 أصبحت فنلندا الأولى على 57 دولة في مادة العلوم، وفي 2009 أصبحت، وحسب اختبارات عالمية مؤكدة، الثانية في العلوم والثالثة في القراءة والسادسة في الرياضيات، ضمن اختبارات شارك فيها نصف مليون طالب في العالم!
هذه المعجزة الفنلندية لم تحدث عبثا، فالفضل الأكبر فيها يعود للحكومة التي اختارت المدرس المنحاز لوطنه، وليس للحزب الديني أو السياسي، كما هو الحال لدينا، فمدرسو فنلندا الـ62 ألفا الذين يقومون بعملهم من خلال 3500 مدرسة، تم اختيارهم من العشرة في المئة الأوائل من خريجي الجامعات، ومن حاملي شهادات «الماجستير» في التعليم، حيث منحوا امتيازات مالية ومعنوية عالية، وساعدهم صغر حجم الفصول الدراسية في معرفة طلبتهم، حيث تبين أن ثلاثين في المئة منهم بحاجة إلى عناية خاصة في سنوات الدراسة الأولى، علما بأن المدارس الفنلندية تحتوي على نسب متزايدة من الطلبة العرب والآسيويين والأفارقة، وحتى الروس. ولو حاولنا مقارنة خطة التعليم الفنلندية بخطة التعليم الكويتية، التي بدأت في الفترة نفسها تقريبا، فإننا سنصاب حتما بآلام حادة في المعدة!
***
يقول المفكر أحمد عصيد: «نبني المساجد ونبالغ في زخرفتها وتجميلها، وتعليق الثريات فيها، وننسى كلياً المدارس، وهي الأهم، فكيف نتوقع أن نتقدم وننهض؟!».
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw