الرقابة والتفاهة والكوسة

عاد ابن النحات العالمي الفنان «سامي محمد الصالح»، قبل أيام من جمهورية أذربيجان، حاملا معه، كعادته، تذكارا من البلد الذي يزوره. وكون والده نحاتا معروفا، وتربى معه في بيئة ثقافية وفنية عالية، فقد أعجب بمنحوتة يبلغ ارتفاعها 40 سم بسماكة عشرين سم أو أقل، وتمثل رجلا يقف أمام امرأة، تفصل بينهما مسافة كبيرة. لم يعجب شكل المنحوتة، في «مطار الكويت اللادولي»، مفتش الجمارك فقرر مصادرتها، بحجة أن بها حركة محرمة، فالرجل والمرأة في وضع أو بنيّة تبادل قبلة (!!). بعد شد وجذب وغمز ولمز أخبره المفتش بأنه سيتم هذه المرة التسامح معه، ولولا معرفتهم بمن يكون لكان الحساب معه مختلفا. وتم نشر هذه المعلومة أو الفضيحة في تغريدة انتشرت بشكل كبير.

 يتساءل القارئ، أين وصلنا، ولم وصلنا لهذه الدرجة من قلة الفهم والتحجر؟ وهل هذه الكويت، التي يعرفها، أم أصبحنا نعيش في دولة طالبان؟ أين ذهبت كويت الفن والنحت والثقافة والأدب والجمال؟ كيف يعترض المفتش على تمثال صغير حمله مواطن معه من الخارج، ووالده الفنان سامي محمد، الذي تصدرت منحوتاته صالونات مئات البيوت، وتمثل لأصحابها ثروة فنية ومادية ومعنوية عالية؟
***
محنة هذا المواطن ذكرتني بما حصل معي، قبل 33 عاما، عندما عدت، وأسرتي، من هجرتي الطوعية لبريطانيا، وكان وصولنا قبل الغزو والاحتلال الصدامي الحقير، بأيام قليلة، حيث ذهبت للجمارك، بناء على طلبهم، للرد على استفسارات تتعلق بمحتويات الحاوية التي نقلت أثاث بيتي، وتبين أن الرقابة قامت بمصادرة كل الكتب التي كانت في الحاوية، وبينها كتب تاريخية وبحثية ثمينة، لم تكن موضوعاتها تشكل سببا للمنع والمصادرة. كما قام «مفتش الجمارك» غير المؤدب والجاهل بتحطيم وتشويه كل التماثيل والأشكال التي رمزت سواء لبشر أو لحيوانات، وغالبا بحجة أنها «حرام»!

بعد الاتصال بمدير عام الجمارك، وكان حينها أبو عبدالله، الغانم، أوقف مصادرة الكتب، وألقى المسؤولية على وزارة الإعلام، لتقرر ما هو الممنوع منها، فتولى الأمر موظف في الرقابة، من جنسية عربية، جزمت حينها أنه لم يقرأ في حياته كتابا، بعد تركه المدرسة، حيث قام بوضع صناديق الكتب، الواحد تلو الآخر، بين رجليه، وبدأ بعملية الفرز «الخضار»! جهله بالإنكليزية، وقلة معرفته دفعته للحكم على الكتاب من غلافه، حيث منع أحد كتب الفيلسوف «ابن رشد» لأن على غلافه صورة رجل معمم. أما كتاب «عشيق الليدي شاترلي»، الذي كان يوما ممنوعا حتى في بريطانيا، فقد أجازه لأن الغلاف لم يكن مثيرا، وهكذا مع بقية الكتب!
***
حالنا لا يختلف طبعا عن حال دول العالم الثالث، الذي نحن منه، لأن ليس هناك عالم رابع. فمهمة الرقابة على ما يجب أن يطلع عليه المثقف أو الأستاذ الجامعي أو الباحث الموسوعي، من مواد علمية أو ثقافية أو أدبية أو غيرها، تناط عادة بموظفين يتم اختيارهم عمدا لتواضع فهمهم، وقلة إدراكهم، فهم، برأي المسؤولين، الأكثر جدارة للقيام بهذه المهمة... وسلّم لي على الكوسة!!

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top