إسرائيل فانية أم باقية؟

غرد الكثير وهللوا لمقال انتشر مؤخراً على وسائل التواصل يعود لسنوات طويلة مضت، للكاتب الإسرائيلي آري شبيط، قال فيه إن الإسرائيليين اجتازوا نقطة اللاعودة، وإنه لم يعد بإمكانهم إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، ولم يعد بالإمكان إعادة إصلاح الصهيونية وإنقاذ الديموقراطية. وإذا كان الوضع كذلك، فلا طعم للعيش في هذه البلاد، ولا طعم للكتابة في «هآرتس»، ولا طعم لقراءتها، وتجب مغادرة البلاد. إذا كانت الإسرائيلية واليهودية ليستا عاملاً حيوياً في الهوية، وإذا كان هناك جواز سفر أجنبي لدى كل مواطن إسرائيلي، ليس فقط بالمعنى التقني، بل بالمعنى النفسي أيضاً، فقد انتهى الأمر. يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس، ومن هناك يمكن مشاهدة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتنتهي أسطورة ديموقراطيتها.

وفي جانب آخر، يقول الكاتب الإسرائيلي اليساري جدعون لافي إن الإسرائيليين يدركون أنه لا مستقبل لهم في فلسطين، فهي ليست أرضاً بلا شعب كما كذبوا.

لم يكتفِ لافي بالاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، بل وبتفوقه على الإسرائيليين، وأن الفلسطينيين، كما يبدو، طينتهم تختلف عن بقية البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا على شبابهم الغانيات وبنات الهوى والمخدرات، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر الانتفاضة تلو الأخرى. كما أدخلناهم السجون وقلنا سنربيهم بداخلها، وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، فإذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة أخرى، حرقت الكثير، فقمنا بهدم بيوتهم ومحاصرتهم لسنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من شبه العدم صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نبني الجدران ونضع الأسلاك الشائكة. وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا في شبابنا قتلاً. حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الاصطناعي الإسرائيلي، ويدخلون الرعب لكل بيت في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية الإسرائيلية! خلاصة القول، يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال.
* * *
في 1970، صدر للكاتب الإسرائيلي شلومو ساند أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، كتاب بعنوان «اختراع الشعب اليهودي» لقي انتشاراً كبيراً وبقي في قائمة أفضل الكتب لأسابيع، وترجم للعديد من اللغات.

يقول ساند إنه ليس هناك وثائق تاريخية تثبت طرد الرومان للشعب اليهودي في أي وقت من الأوقات، حيث كان من المستحيل، لوجيسيتياً على الأقل، في ذلك الوقت ترحيل مئات الآلاف من مكان لآخر، وإن اليهود المعاصرين لا يتحدرون من أصول اليهود القدامى الذين عاشوا في أرض إسرائيل القديمة، وليس هناك ما يسمى «العرق» اليهودي، فاليهود لا ينتسبون لمنبع واحد، ولم يتم ترحيلهم خارج البلاد على أيدي الرومان خلال القرن الـ12، وأغلبهم ظل يعيش فيها حتى قدوم الإسلام في القرنين السابع والثامن، حيث تحول الكثير منهم إلى الإسلام، مما يعني أن العديد من أسلاف فلسطينيي اليوم كانوا يهوداً.

يرى ساند أن أسطورة «الشتات» اليهودي بدأت مع عصور المسيحية الأولى، لجذب اليهود للديانة الجديدة، وظهرت في ألمانيا مجموعة من المثقفين اليهود الذين تأثروا بالحماس المتقد للقومية الألمانية، وأخذوا على عاتقهم مهمة «اختراع» قومية يهودية وأن فكرة الوعد بعودة الأمة اليهودية إلى الأرض الموعودة، هي فكرة غريبة تماماً على «اليهودية»، وهي لم تظهر إلا مع ميلاد «الصهيونية»، حيث تعامل اليهود من قبل مع الأراضي المقدسة كأماكن يتم تعظيمها، وليس من الضروري العيش في كنفها – تماماً مثلما يتعامل المسلمون مع أماكنهم المقدسة!

ويستعرض ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، معلومات قيمة عن نشأة فكرة اليهودية والوطن القومي، مستعرضاً كامل التاريخ اليهودي، ناقداً الخطاب التاريخي اليهودي التقليدي بمختلف مراحله وتياراته. ويتساءل: كيف ولماذا تحولت التوراة من كتاب شرائع دينية إلى كتاب تاريخ يروي نشوء «أمة اليهود» علماً بأنه لا أحد يعرف بالدقة متى كتبت التوراة؟! ومن الذي كتبها؟! وما الطريق الذي سلكه اليهود المطرودون من مصر؟!

توصل ساند إلى أن اليهود شكّلوا دائماً جماعات دينية مهمة اتخذت لها موطئ قدم في مختلف مناطق العالم، ولم يشكلوا شعباً من أصل واحد.

مقال شبيط وكتاب ساند، وعشرات المقالات والكتب الأخرى المماثلة، التي صدرت قبل هجوم حماس الأخير على إسرائيل، في 7 أكتوبر، أصبحت لا تمثل شيئاً أمام سيل المقالات والمقابلات والخطب والتظاهرات في العواصم الحرة، وما صاحبه من تغيُّر كبير في الموقف من القضية الفلسطينية، وهو زخم لم يكن له أن يتحقق لولا هجوم حماس المفاجئ الذي استنكره العالم لكنه أيقظ الضمير العالمي، تجاه قضية شعب عانى لأكثر من قرن من ظلم المحتل الإنكليزي وتالياً من احتلال وبطش المحتل الإسرائيلي، بحيث أصبح من الإجرام التفكير في استمرار الوضع كما كان قبل ذلك التاريخ. ولكي نكون بنفس حيوية وعدالة اليهود الذين وقفوا مع قضايانا، علينا احترام مواقفهم فوراً وتقديرها بما تستحق، والتقليل من خصلة نكران الجميل لدى مجتمعاتنا، فلسنا.. أفضل الأمم!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top