زرادشت والمجوس
هناك لبس وخلط واسعا الانتشار في ما يتعلق بالمجوسية والزرادشتية، وأصل التسميتين، وهل هي عقيدة واحدة أم عقيدتان؟ فحتى في المراجع الإسلامية لا رأي حاسم، لكن هناك إشارات إلى كونهما مختلفتين، وتعودان إلى أنظمة دينية قديمة. وأوَّل إشارة إلى الديانة الزرادشتيَّة وصلت إلينا تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، في كتاب الإغريقي هيرودوتس، الذي وضع قبل 440 عاماً من الميلاد.
كلمة «مجوس» معرَبة، وتعني بالفارسية مفسّر الرؤى، وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية وأصبحت «ماجي»، وهي جمع «مجوس»، كما أخذها الإنكليز منهم، وأصبحت كلمة magic تعني السحر، ومكوس کلمة من اللغة البهلوية القديمة، وهي لغة أهل فارس، التي أخذها والد شاه إيران الأخير، وأطلقها على أسرته. كما أن مجوس تعني أیضاً «رب القدرة» عند الفرس القدماء. ويقول البعض إن المجوس هم أتباع زرادشت، الذي كرّس اعتقادَي الخير والشر، واعتبر «أهورا مازدا»، (الذي أطلق اليابانيون اسمه على سيارات مازدا الشهيرة)، هو خالق القوتين المتنافستين، الخير والشر. وليس في النص القرآني ما يفرق بين التسميتين أو يوحدهما، غير كون المجوس من أهل الكتاب. كما كان للإسكندر دور في هذا الغموض، فهو الذي أحرق أغلبية كتب الزرادشتية، عندما غزا بلاد فارس.
* * *
الزرادشتية هي ديانة قديمة، نجد تأثيرها الواضح في الديانات الإبراهيمية، وهي أول ديانة توحيدية في التاريخ البشري، لكنها ضعفت كثيراً مع الغزو العربي لفارس، ومن بقي من أتباعها اليوم، في الهند وإيران وأميركا، لا يتعدون 150 ألفاً، يؤمنون بالملائكة والشياطين، ودار نعيم في الآخرة ودار عذاب، وأنه في نهاية الزمان ستولد شخصية منقذة تقود البشرية في معركة نهائية ضد أنجرا ضد الشيطان، ليسود العالم العدل والسلام، وتسبق ذلك حروب ومآسٍ.
«النيروز» هو أهم أعياد الزرادشتية، ويمثل بداية العام، ولا يزال عيداً قومياً في إيران وكردستان، ويؤمن الزرادشتيون بأن الروح تهيم لثلاثة أيام بعد الوفاة قبل أن تنتقل إلى العالم الآخر، يؤمنون بالحساب، وأن الصالح سيخلد في الجنة، والفاسق سيخلد في النار. وبسبب كرههم لفكرة اختلاط الجسد المادي بعناصر الحياة، الماء والتراب والهواء والنار، حتى لا تلوثها، فإنهم يتركون جثامين موتاهم طعاماً للطيور الجارحة على أبراج خاصة تسمى أبراج الصمت، وتوضع العظام بعدها في فجوات خاصة في البرج من دون دفن.
أدت الزرادشتية دوراً رئيسياً على مسرح التاريخ الديني، فقد عرفت اليونان زرادشت واحترمته في عصر أفلاطون، وانتشرت عبادته. كما أثارت فكرة المخلص في البوذية في صورة ميثرا بوذا، وأثرت أيضاً في تطور الإيمانين اليهودي والمسيحي وصبغتهما بصبغتها، كما كان لها تأثير كبير في الطوائف الباطنية من قرامطة وغيرهم.
تصوير الزرادشتيين العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظ خيال شعوب عدة، وجعله حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة تحض على الأخلاق الفاضلة وتصونها، وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة، وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً، أراد ذلك أم لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو يغفله يرجح قضية أهورا مازدا أو قضية أهرمان. وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين، إذا سلمنا بأن الناس في حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية، تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليها النظرات الأخرى القائلة إن الإنسان ليس إلا حشرة لا حول لها ولا قوة. ذلك أن بني الإنسان حسب تعاليم زرادشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية، بل لهم إرادة حرة، لأن أهورا كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهرمان هو الكذبة المخلدة. وروجت الزرادشتية لمقولة إن «الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيراً له هو نفسه».
وتقول الأبستاق الزرادشتية إنه على الإنسان واجبات ثلاثة: «أن يجعل العدو صديقاً، وأن يجعل الخبيث طيباً، وأن يجعل الجاهل عالماً». وأعظم الفضائل عنده هي التقوى، وتأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً. وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً.
وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً معقولاً، وأقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان التي جاءت في عصره، وكان خليقاً بأن يستمر، لكن الإنسان يولع بالشعر أكثر من ولعه بالمنطق، والناس يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير.
زهد المجوس وتقشفهم، واقتصارهم على زوجة، وتطهرهم بمئات الأساليب، وامتناعهم عن أكل اللحوم، وبسيط ملبسهم، وبعدهم عن التكلف والتظاهر، جعلهم ذلك يشتهرون بالحكمة بين الشعوب الأخرى، ومنهم اليونانيون أنفسهم.
أحمد الصراف