«عربية» طقشة.. ولغة شكسبير
قبل شكسبير، لم تكن الإنكليزية المكتوبة – بشكل عام – موحدة، فقد ساهمت أعماله بشكل كبير في توحيد قواعدها النحوية والإملائية وزيادة مفرداتها، فقد أدخل 1700 كلمة جديدة إليها، بخلاف العديد من العبارات، التي أصبحت متداولة بكثرة في أيامنا، مثل «كسر الجليد» أو امتلاك «قلب من ذهب». كما كان له تأثير عميق في الشعر والأدب، واستخدم في الشعر معياراً جديداً سمّي بالـblank، وتأثر به فطاحلة كتّاب وشعراء الإنكليزية. وعلى الرغم من عظيم وعميق تأثير شكسبير في المتحدثين بالإنكليزية، فإنه، في الوقت نفسه، لم يطلع مئات ملايين المتحدثين بالإنكليزية على أعماله، ولم يُضِرْهُم ذلك، ولم يخسر شكسبير شيئاً من عظمته.
* * *
تساءل الزميل والصديق أحمد طقشة، مدير تحرير القبس الأسبق، في مقال له بعنوان «هل العربية تموت؟»، قال فيه: قد يُصدم الكثيرون من قراءة العنوان، مع أن كثرة منهم، من المتعلمين والضالعين في العربية، سبق أن تساءلوا، في سِرّهم غالباً: ألا تكون العربية تموت أمام أعيننا؟ ألن تحتضر في قادم مستقبلها؟ ماذا لو طلب الواحد من أحدنا أن يسمِّي بالعربية عالَم ومفردات بيته: هل يمكنه ذلك؟ هل يقوى على تعيين عالم السيارة أو الحافلة التي تقله، أو تعيين علامات الطريق المسلوك؟ وماذا عن تسمية عالم الحاسوب، أو عالم المحاسبة، أو عالم الطيران، أو عالم الإتجار وغيرها؟ ماذا لو طلبَ الواحد منا تسمية ما يحتاجه في كرة المضرب، أو عالم البورصة؟
هذا ما أثار مخاوف الأديب إبراهيم اليازجي قبل مئة عام ونيف، إذ تساءل عما إذا كان في مقدور العربي تسمية ما يحيط به، متشككاً في ذلك، ومعها زادت الهوة بين العربية والوجود. وماذا لو انتقلنا إلى عالم الخطاب، إلى النظام التعليمي، إلى عالم الصناعة والتكنولوجيا، أو عالم الطب والهندسة وغيرها، هل بمقدور العربية التكفّل بمقومات هذه أم تراجعت أكثر عما كانت عليه حال العربية في زمن اليازجي؟ ألا تُعلَّم مواد الطب والهندسة والصيدلة وغيرها بلغات أجنبية؟ لقد أصبحت العربية لغة محلية، ضيقة الكفاءة تتراجع في المدرسة، والجامعة، والمكتب، والإدارة، وفي توليد معارف وتكنولوجيات قادرة على إنعاش قوى المجتمع، الذي أصبح استهلاكياً لما يُنتجه الغير؟ ألا تموت العربية، والأجيال المتعلمة تبتعد عنها، من دون أي أمل يُرجى منها، فلا تَكتبها، وإذا ما اضطُرت لكتابتها، فهي تكتبها بأحرف لاتينية؟ ألا تموت، وقواعد كتابتها باتت مختلة حتى عند كُتّابها، فكيف عند غيرهم؟ ألا تموت وقد ضاقت مدارات اشتغالها، وتجددها؟ ألا تموت وهي باتت تقتصر وحسب على جزء ضيق من حياة مستعملِيها المفترضين، المكتفِين بجوانب دينية وأدبية وصحافية وإدارية منها؟ ألا تموت العربية، وهي لا تؤدي إلى أفعال منتجة في مجتمعاتها من علم ومعرفة وصنع وغيرها؟ ألا تموت، إذ تتحول إلى لغة أداء واجبات وفروض، من الدين إلى التعلّم، من دون أن تجلب أي فائدة منتِجة لأصحابها؟ أتكفي «حياةُ» العربية في الصحافة للقول إنها.. تحيا، ولا سيما في عيدها، الذي يبدو، سنة تلو سنة، مثل واجب إكراهي أو مناسبة للتذكر، أو للاحتفال بالغائب؟ لعلها لا تموت، وإنما تضعف وتترهل للغاية. ألها أن تكتفي بانتشارها الديموغرافي، والتلقائي، أو بوجوبها الديني عند المسلم، أو باعتياد قراء على أدبها؟
* * *
تساؤلات عميقة ومشروعة طرحها الزميل، لكن لا أحد يود الاقتراب منها، خوفاً من أن يتهم بهدم العقيدة، وقطع الصلة بالنص المقدس، إن حاول تطوير اللغة، وجعلها سهلة الكتابة والقراءة والنطق، بدلاً من تركها مع معضلاتها الحالية، التي لم تتغير منذ ألف عام، فبقيت جامدة، وجمدتنا معها!
المشكلة أن خوفنا من تغيّر صورة العقيدة، إن تغيّرت اللغة، دفعنا إلى وقف تطوير اللغة، فأدى ذلك إلى تخلفنا، فما الذي استفدناه من رعبنا من تطوير اللغة؟
أحمد الصراف