صديقتي المسيحية.. وكتابي

التقيت في بيروت، أخيرا، خلال ندوة تعلق موضوعها بكتابي «سر لبنان بعيون كويتية»، بمجموعة من الأصدقاء، حيث تحدث في الندوة السياسي والاقتصادي نزار يونس، وصاحب المقام الأب جورج حبيقه، رئيس جامعة الكسليك، والروائي الأديب عمر سعيد، وأدار الندوة باقتدار الكاتب العدل الأستاذ جوزيف بشارة، وحضرها جمع كبير نسبيا، نظرا لظروف لبنان، أتوا من كل الأطراف متجشمين عناء الترحال في دولة أصبحت طرقاتها أقل ازدحاما وأكثر صعوبة، وأبطأ وصولا، والأسباب كثيرة ومعروفة، «فالمشوار» أصبح رحلة، والخوف من أن انفجار الأوضاع في أية لحظة أصبح هاجس الجميع، فلا أحد يود أن يكون في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ!
* * *
كالعادة، كانت الأستاذة إلهام حلو في مقدمة الحضور، وكان اللقاء بها حلوا كاسمها، فهي «أديبة الأدراج المغلقة»، لأنها تحتفظ في أدراج مكتبها بكل ما يعن على بالها كتابته، بأسلوبها الأنيق، وترفض نشره.

تقول إلهام في رسالتها التي تلقيتها على الإيميل، بعد عودتي من بيروت، بأن اللقاء بيننا يستحق العناء، سواء لندرته ولما يتضمنه من متعة فكرية وعقلية! وتضيف: أنا، كما تعلم، مارونية، وقبل ذلك إنسانة وحرة، وأستمتع بما تكتب، وسعيدة بحالي، وتعليقي على كتابك الذي تضمن مقالات عن دور المسيحيين في لبنان، والذي بيّنت فيه اشياء واخفيت أخرى، ربما عدم رغبتك البوح بها. ففي مجتمعنا تختلف شخصية المسيحي، بصرف النظر عما إذا كان ملتزما أم لا، عن شخصيّة المسلم، فنحن، وغالبا دون قصد، من أسرنا، نتربّى تربية مرنة، بها نسبة حرّية عالية، وحق إبداء الرأي متاح، حتى لو تضمن نقدا للسائد أو التقليدي، مقارنة بالغير الذي يميل لقمع الرأي، ويميل لإخفاء المشاعر، هربا من التقريع أو الاتهام. وبالتالي نجد أن الأول استطاع، بسهولة، أن يتطور ويبدع خلال مسيرته، وأن يخطأ، فالعثرات هي أيضا دروس في الحياة، وهي ضرورية للانطلاق لمستقبل أفضل تهيّؤه التربية الصحيحة.

لذا، لا نستهجن من رؤية المسيحي راقصا أو مطربا أو موسيقيا، أو نحاتا، ولا يعيبه إن بيّن ذلك في سيرته الذاتية، فهو يفعل ما يحلو له ولا ينظر «من فوق كتفه» خائفاً أو حذراً. أما الثاني فغالبا ما ترعبه تربيته الأبوية، البطريركية العنفيّة، وتكبّله، أو تشلّه، فلا يبادر ولا يُعمل الفكر، ولا يسمح بذلك لسواه، فنراه يقبل، دون نقاش، ما تم تحديده بالمسموح والإلزامي والممنوع.

تستطرد السيدة الحلو بالقول إنها تلاحظ ذلك على من يتبعون غير ملتها، حيث تجدهم حذرين في إبداء مشاعرهم أو آرائهم، ويسارع الواحد غالبا لموافقة الآخر على رأيه، حتى وإن لم يفهم شيئاً مما سمع. بينما بإمكاننا مناقشة أي كاهن او مطران، ومعارضة رأيه، دون الخشية من السخرية أو التكفير، حتى لو تضمن كلامنا الطعن في ممارسات أو معتقدات دينيّة، فالفهم العام أن السلطة الدينيّة، لدينا على الأخص، أكثر تساهلاً، وأسرع في محاكاة أنماط العيش وقيم العصر، كما أن الهرميّة الواضحة تسمح لها، في لقاءاتها ومؤتمراتها، بقبول مستجدات العصر، مثل طفل الأنبوب، التبرع بالأعضاء، والمساكنة، وتولي المرأة الوظائف الكنسية وغيرها من الأمور الحساسة، ويحدث ذلك غالبا لعلم رجل الدين بعدم قدرته على تغيير مسار التاريخ، ولا رغبته بتكفير الآخر.

وتعتقد المربية إلهام أن هذه المراجعة الدائمة تحمي العقيدة من التحجّر، ومن فوضى الفتاوى، وقد تشكل المواقف صدمة للملتزم، لكنها أصبحت نهجا وجزءاً من الفكر الديني المسيحي، وربما يكون لتاريخ الغرب، وعصر التنوير، وثوراته وعلمانيّته تأثير مباشر في ذلك، فمركز السلطة الدينيّة المسيحيّة يوجد لديهم. كما أنهم تخلوا تماما عما كان يميز مدارسهم من صرامة وشبه انضباط عسكري، خاصة اليسوعية منها، وأصبح هناك تراجع لمصلحة حرية ابداء الرأي وقبول النقاش والبحث الحر. لكنها تستدرك قائلة إن ما ينسب للمسيحيين من مثالية ومن قيم، وكأنها صفات ملازمة لهم، غير صحيح في الغالب. فسلوك الإنسان، بشكل عام، خارج وطنه وبعيدا عن أهله يختلف عن سلوكه داخل وطنه، فالغريب يكون في الغالب أديباً، كما يقول المثل. وإن بين المسيحيين، كغيرهم، من يستغلّ الآخر ويغش، فكلنا، في النهاية بشر خطاؤون!

وتنهي رسالتها بالقول: قدرة الفرد على النقد، والرفض والتطوير تظهر في سياق تطوّر إدراكه الطبيعي لنفسه ولمحيطه، فقد تُقبل وتُحترم، وقد تُقمع وتجرّ عليه القصاص. لذلك يُعد اختيار المدرسة التي نعهد بأطفالنا إليها مهمّا جداً. وعلينا ان نطّلع اولاً على سياستها التربوية: أين تقع بين طرفي القمع والتفلت، وبين التعصب وقبول الآخر؟

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top