مهمة سمو الرئيس شبه المستحيلة
كررنا ذلك كثيرا، وسنكرر الكتابة عنه ما بقي فينا عرق ينبض، بأن لا مجال لتقدم الدولة بغير التمسك بالحداثة، وباتخاذ التنوير طريقا وأسلوب عمل، وكما قال الأستاذ محمد الرميحي، وأيده الأستاذ الآخر، توفيق السيف، وعشرات غيرهم، لا يمكن لحكومتنا الاحتفاظ بالكيكة أو التفاحة وأكلها في الوقت نفسه. فمن يريدون الانضمام إلى قطار الحداثة، ومجاراة العصر، ويريدون –في الوقت نفسه- الاحتفاظ بهوياتهم القديمة، هم من يريد أكل التفاحة والاحتفاظ بها، وسيفشلون حتما في المهمتين. فالتقاليد والحداثة، كما يرى هؤلاء، ليستا مجرد أوصاف نُطلقها على نمط المعيشة، ولا هي وظائف نضيفها إلى هذا النمط أو ذاك، كي يعمل بطريقة محددة. فالتمسك بالتقاليد والتغني بالفكر الماضوي التليد، والفخر بشعر ابن الوليد، أمر يستحيل أن يصل بنا لأي بر أمان، ولن يبقينا حتى في أماكننا، بل سيؤدي في النهاية لاندحارنا في كل مجال.
وبالتالي فإن الحداثة، حسب التصور المنطقي، ليست مجرد تنويع نمط معيشة قائم، ولا هي منظومة وظائف أكثر تطوراً، نضيفها على النمط القديم، مثلما تُغيِّر بطارية السيارة مثلاً أو محركها، بأخرى أحدث وأفضل، فوجود الحداثة يعني –بالضرورة– زوالَ التقاليد، حيث لا يمكن رؤية العناصر التي تشكّل نمطَ العيش الحديث، إلا إذا زالت نظائرها التقليدية، فالتحديات التي تواجه دولنا في الحياة تعني وجود كرسيٌّ واحد، يحتله أحد النمطين، إما التقليد وإما الحداثة.
أما ما يحدث في مجتمعاتنا من قيام الغالبية العظمى من القوم بطلب الحداثة، والسعي لها، لكنَّها في الوقت نفسه خائفة من هجر التقاليد ومن كلام الناس، فهو مدمر. والسبب يعود إلى اقتناع هؤلاء بضرورة الانتقال إلى الحداثة، والعيش في ظلها، وغالبا المشاركة في بناء أركانها، لكنَّهم، في الوقت نفسه، يملأهم القلق والشك، من احتمال خسارة ما، أو شك في صحة ما يقومون به من ناحية العقيدة أو التقاليد، لأن نفوسهم مغروسة في بستان التقاليد، لا تستطيع مغادرته، فتتكون لديهم الازدواجية في التصرف، والقبول بفعل الشيء ونقيضه، دون الشعور بالذنب أو بخطأ تصرفهم، وهكذا أصبحنا بالفعل!
من خلال مراقبة دقيقة امتدت لعقود، لاحظتُ أننا أكثر أمم الأرض بعدا عن قول الحقيقة، أو القدرة على مواجهة الواقع، والأمثلة على ذلك لا تحصى، كما أراها في تصرفات وأقوال أقرب الناس إلي، وقوانين النشر لا تسمح بالتطرق لها بحرية أكثر. فما نراه لدى البعض من نسق ديني معين، ينقلب لما يشبه ضده لدى نفس الشخص، لوجود كم من التناقض بداخله، فنجده يحرص بقوة كي لا يعرف عنه ابنه تصرفا غير مقبول في بيته، مثلا! ونجد في الوقت نفسه أن الابن، هو الآخر، يقوم بنفس التصرف، ويحرص، بنفس القدر، لكي لا يعرف والده عنه! فالرغبة في الحفاظ على ما يعتقد الناس أنَّه مظهر ديني قد تَحوَّلت إلى نوع من الحياة المزدوجة؛ تتمثل في نسق حداثي في الصباح، ونسق آخر في المساء، والحديث هنا ليس عن سلوكيات فقط، بل وعن قيم وقناعات ترتبط بالحداثة من جهة وبالتقاليد من جهة أخرى.
كما لاحظت ندرة الأمم، بخلاف المسلمين، من عرب وغيرهم، التي لديها هذا الصراع الداخلي اليومي، بين الحداثة والتقاليد، أي الرغبة في امتلاك التفاحة، وأكلها أيضاً، والحل يكمن في الدولة المدنية.. ومن دونها وما ذكرناه في المقالين السابق والحالي، يبدو أن مهمة سمو الرئيس ستكون شبه مستحيلة.
أحمد الصراف