الجندي الأمريكي على الأرض اليمنية
يثبت اليمن، المرة تلو الأخرى، أنه بلاد عصية على الفاتحين، وإن خضع لجيش لفترة، فلكي يستدرجه ويذيقه الهوان بعدها، هذا ما حدث طوال أكثر من ألفي عام من تاريخه المليء بالمعارك والدماء والتشتت والتشرذم والاتحاد، والعودة للتشرذم، القبلي والمذهبي، وما أكثر أسباب تفرقه ومعاناته، وما أندر سنوات راحته وسلامه. التلاعب على التوازنات ونقل السلاح من كتف لآخر هي لعبة يمنية معروفة منذ قرون، يجيدونها كما يجيدون إطلاق الرصاص والقتل، والأوداج منفوخة بأوراق القات، التي يخزنونها وهم يغنون، وهم يعزفون وهم يقاتلون، ويستمرون في البصق في أوانٍ أمامهم، أو على أرض المعارك.
أتعب اليمن جيوش الأحباش والعثمانيين والإيطاليين والإنكليز والمصريين، وكل الجيوش العربية التي حاولت ترويضهم أو توحيدهم، أو حتى مساعدتهم في التغلب على مشاكلهم، فهم لا يرحبون بالغريب، إلا للاستفادة منه مؤقتاً ثم طرده، فلا استعداد لديهم لتغيير مظاهر حياتهم التي لا تزال على وضعها منذ مئات السنين، من لباس وخنجر وقات وعشرات قطع الأسلحة النارية.
باستعراض تاريخ اليمن، مع بداية التاريخ الميلادي، نجد مئات التحولات والمعارك بين مختلف مناطقها، بصورة مستمرة ومتكررة، ونجحت إيران أخيراً في كسب فصيل قوي فيها، مكون في غالبية من الحوثيين، وهم من الزيدية، المتعاطفة مع الشيعة، فأصبح هؤلاء شوكة في خاصرة حكومتها الشرعية، التي ذابت وانتهت، ليبقى اليمن غير موحد، لكنه لا يزال وطناً يحكم مناطقه من يحمل السلاح.
مع اشتداد الضغط على غزة، قامت إيران، حليفة حماس، باستخدام الحوثيين للتسبب بإزعاج أمريكا وحلفائها الغربيين، الداعم الأكبر لإسرائيل، ووقف الملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب، ونجحوا في دفع آلاف السفن للدوران حول أفريقيا للوصول إلى أوروبا، بتكلفة عالية، بعد أن حرَّمت عليها عبور قناة السويس، فهبطت موارد مصر منها لأقل من النصف، وفشلت كل غارات الطائرات الأمريكية، والغربية في تقليل قدرة الحوثيين على وقف الملاحة على باب المندب، وهذا دفع أمريكا للدخول في محادثات سرية مع إيران لإقناع الحوثيين بإنهاء هجماتهم على السفن على مدخل البحر الأحمر. لكن إيران نفت خبر الـ«نيويورك تايمز» عن الحوثيين، لكن لم تنفِ وجود محادثات.
لا شك أن أمريكا، بكل قوتها عاجزة عن وضع حد لخطر الحوثيين، فكل غاراتها على مناطق نفوذهم، وقتل بضع مئات منهم، وفرض المقاطعة عليهم، لم تؤدِ لشيء، فليس لدى هؤلاء اليمنيين، بأوزرتهم ونعالهم الرخيصة الثمن، ما يخسرونه، وأمريكا ليست حتماً على استعداد لإرسال مئات الآلاف من جنودها لمحاربتهم، خاصة أن أي عملية عسكرية على أرضها ليست مضمونة، ولا مأمونة النتائج، وبدون boots on the ground لا يمكن تحقيق أي اختراق عسكري في اليمن، والقضاء على نقاط التمرد بالطائرات أصبح غير مجدٍ، فقوانين الحرب والقتال في العالم في تغيُّر مستمر، وهذه روسيا، وريثة إمبراطورية القياصرة، وبعد ثلاث سنوات تقريباً، وخسارة مئات مليارات الدولارات، وفقد أرواح الآلاف من جنودها، لا تزال تحاول دك أسوار كييف، عن بعد، من دون نجاح يذكر!
أحمد الصراف