عظمة الفن.. وجلال الديموقراطية
مع كل عظمة تاريخ اليونان وافتخارنا بحضارتها العريقة، إلا أنها كانت ربما بحاجة إلى فيلم بحجم «زوربا»، وإلى رقصة فريدة وموسيقى عالمية لتضعها على خريطة قلوب ملايين البشر، وهنا تكمن عظمة الفن!
* * *
يصادف هذا العام مرور ستين عاماً على إنتاج فيلم «زوربا اليوناني» zorba the greece، الأيقونة الثقافية الخالدة، وكان قدر أنتوني كوين أن يخلد للأبد لدوره الفذ في ذلك الفيلم.
لم يكن فيلم زوربا عادياً، بل قضية ثقافية وفكرية اختصرت حقبة مهمة من تاريخ اليونان، واحتوى على فلسفة حياة، وحب وكره وعنف، وقيم إنسانية، وأخرى اجتماعية، ودروس رائعة في حقوق المرأة، بكل تجلياتها عبر القرون، وكشف معنى الحرية والدفاع عن الكرامة، ورسّخ حقيقة أن الموسيقى والرقص هما من أجمل أدوات التعبير، عندما تعجز الكلمات عن القيام بتلك المهمة.
* * *
كما يصادف هذا العام مرور مئة عام على ميلاد عملاق الفن والموسيقى شارل أزنافور، الفنان الفرنسي المبدع، ومنارة التراث الثقافي.
ولد أزنافور في 22 مايو 1924 في باريس لأبوين أرمنيين مهاجرين، وارتقى ليصبح شخصية أسطورية، تخطّى صوته الحدود والأجيال، حيث شدا بأكثر من 800 أغنية مكتوبة، و1000 تسجيل باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية والأسبانية، وبيعت لأغنياته أكثر من 100 مليون أسطوانة، وتركت ألحانه المفعمة بالحيوية، وكلماته المؤثرة، علامة لا تُمحى، ورحل عام 2018، تاركاً إرثاً خالداً، لفنان لم يأسرنا ببراعته الفنية فحسب، بل جسّد أيضاً المرونة والعاطفة والقوة العميقة للموسيقى، بخلاف مواقفه الإنسانية الكبيرة.
قام ريكاردو كرم، الإعلامي اللبناني والعالمي المعروف والمحاور والمنتج والكاتب، وصاحب المبادرات الجميلة، والحوارات الرائعة مع كبار المشاهير، عربياً وغربياً، والذي تستحق سيرته مقالاً منفصلاً، بإجراء أكثر من لقاء مع أزنافور، كان آخرها قبل وفاة الأخير، تميز اللقاء بالصراحة، وتطرق لأمور لم يكن الكثير من محبي أزنافور على علم بها، وأنا أحدهم، علماً بأنني أنفقت كامل راتبي الأول من عملي في البنك، وكان ذلك قبل ستين عاماً، على شراء مجموعة من الإسطوانات لشارل أزنافور ولأديث بياف وفرانك سيناترا وكوني فرانسيس ونات كينغ كول.
* * *
تأثر أزنافور كثيراً بسيرة والده، الذي سبق أن شارك في مقاومة النازية في وطنه، فرنسا. وتعلّم منه عزة النفس، حيث يقول في جزء من مقابلته مع ريكاردو: إن دروس حياته كانت قاسية، ولكنها كانت أيضاً جميلة، وإنه تعلم أن يبقى صلباً وواقفاً، حتى النهاية، رافضاً الانحناء.
وقال إنه لم يفعل شيئاً لم يرغب في فعله، ولم يغنِ على مسرح لم يعجبه، ولم يعمل من أجل المال، لكن كان يسعده تحقيق ثروة، وفسر ذلك بأن عدم سعيه وراء المال لم يجعله يعمل مقابل لا شيء، إلا إذا كان العمل لغرض خيري.
* * *
ما قاله أزنافور ما كان من الممكن قوله إلا من مواطن حر، يعيش في وطن حر يعطيه الأمان، ويعلم جيداً أن حقوقه مصونة، ويعيش في ظل قانون يشمل الجميع، ولا يتم كبس الناس، مهما كانت مخالفاتهم، وهم بداخل سياراتهم.
سيرة أزنافور درس جميل للكثير، ولما يعنيه العيش في دولة ديموقراطية.
أحمد الصراف