«بابيه» الذي يستحق الاحترام
لن أبالغ إن قلت إن المفكر والمؤرخ الإسرائيلي اليهودي الكبير «إيلان بابيilan pappe» هو أشرف في مواقفه وآرائه من الكثيرين من بني جلدتنا، وأشرس وأقوى في دفاعه عن القضية الفلسطينية حتى من بعض الفلسطينيين، وأتمنى ألا ينسى دور هذا المؤرخ، السياسي والتاريخي من القضية.
ولد بابيه في حيفا عام 1954 من أبوين يهوديين ألمانيين، وتخرج في الجامعة العبرية في القدس سنة 1978 وحصل على الدكتوراة من جامعة أكسفورد سنة 1984، وسبق أن خدم في جيش الدفاع الإسرائيلي، وكان مع الفرقة التي سيطرت على مرتفعات الجولان في حرب 1967.
يعتبر بابيه أكبر مؤرخ إسرائيلي وناشط سياسي معارض للفكر الصهيوني، وعمل أستاذا بجامعة إكستر، ومديرا للمركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية، ومؤلف عدة كتب منها «التطهير العرقي لفلسطين» 2006، و«تاريخ فلسطين والشرق الأوسط» 2005 ، و«تاريخ فلسطين الحديثة... أرض واحدة وشعبان» 2003، ويحسب على تيار المؤرخين الجدد الذين قاموا، في الثمانينيات، بإعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية. ويعتقد أن عملية التطهير العرقي لفلسطين، تمّ التخطيط لها قبل تأسيس إسرائيل، مع سبق الإصرار، من خلال ما عرف بـ«خطة دالت» التي انتهجتها الوحدات العسكرية الإسرائيلية.
في أطروحته للدكتوراه تناول بابيه موضوع الرسالة التي وضعها المؤرخ اليهودي «تيدي كاتس»، والتي كشف فيها أحداث مجزرة قرية الطنطورة الفلسطينية، التي نفذتها القوات الإسرائيلية سنة 1948، وهذا أغضب الصهاينة كثيرا. فقد ورد على لسان جنرال شارك في تلك المجزرة، وسبق أن شارك في الكتائب اليهودية التي حاربت النازية في الحرب العالمية الثانية، إن أكثر ما استرعى انتباهه أن النازيين لم يقتلوا أسرى الحرب! لكن الجنود اليهود لم يترددوا في قتل مدنيين عمدا في الطنطورة، وهم منتشون بعملهم، وتساءل؛ كيف وصل الحال بهم لتلك البشاعة، فما اقترفته كتيبته بحق الفلسطينيين في الطنطورة أعاده إلى المقابر اليهودية في زمن النازية، وكيف تحسر بعض من شاركوا في تلك المذبحة من أنه كان ينبغي عليهم قتل جميع سكان القرية!
دافع بابيه بصلابة عن موقف «كاتز» وأطروحته، التي رفضت جامعة حيفا الاعتراف بها.
* * *
للبروفيسور بابيه عشرات المحاضرات والندوات واضعافها من المقالات بخلاف الكتب التي وضعها عن الحق الفلسطيني. ويرى، كمؤرخ جاد، أن الصهيونية ظاهرة مشابهة لحركة الأوروبيين الذين خلقوا أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، قبل تحرر الأخيرة منهم. ويرى ضرورة معرفة ذلك لفهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، وضحاياه من فلسطينيين ويهود منذ أواخر القرن 19 وحتى اليوم، ومعرفة ذلك مهمة في إطار فهم عمليّات المقاومة الفلسطينية منذ عام 1948. فقد رأت الصهيونية أن تأسيس مجتمع استعماري استيطاني ناجح خارج أوروبا، يتطلب القضاء على السكّان الأصليين في البلد الذي يتم استيطانه، وصراع الفلسطينيين كان ضدّ الإبادة والإفناء وليس فقط من أجل التحرير! وقال إن كل المؤشرات كانت تبين أن هدف الصهاينة هو القضاء على السكّان الأصليين في غزّة،
وأمام أعين العالم. فما الذي يدفعهم لأن يقتربوا كل هذا القرب من التخلّي عن 75 عاماً من محاولة إخفاء سياساتهم الإبادية؟ وهذا يكشف كذب كل الادعاءات المتعلقة بعمليات الإبادة في دير ياسين وغيرها بأنها كانت رد فعل على عمل فلسطيني، كرمي حجارة أو مهاجمة مستوطنة يهودية، أو كأنها عملية احتجاج على خطّة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة في نوفمبر 1947. وما نشهده اليوم هو نموذج مماثل، فعملية الرد على طوفان الأقصى تحولت لحرب إبادة حقيقية وتطهير عرقي، من خلال تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، ومع هذا لم يتحقق الهدف الاستعماري الاستيطاني، فمنذ عام 1948 إلى اليوم استخدمت إسرائيل على نحو تدريجي كل قوّتها لمواصلة القضاء عليهم، واستمرار خلع الإنسانية عنهم، وإكمال أعمال الإبادة.
لست من دعاة الحرب، وأؤمن بالسلام والتفاوض على أية قضية خلافية، ولكن عندما يصر ويصمم عدوك على إبادتك والقضاء التام عليك، ورفض الاعتراف بوجودك، فليس أمامك غير الدفاع عن هذا الوجود بكل الطرق. والمؤسف أن كل دعاة السلام لم يقدموا يوما حلا منطقيا للقضية، بل اكتفوا بالتنديد بما قامت به حماس، وهؤلاء إما أنهم يتغابون، وإما إنهم مستفيدون من استمرار الوضع على حاله.
قبول الفلسطينيين لوضعهم، كما يقترحه هؤلاء، سيحولهم لـ«هنود حمر الشرق الأوسط!».
أحمد الصراف