عندما يموت الطبيب
الجميع يرغبون في العيش بكرامة، والغالبية يتمنون الموت بكرامة! لكن هذا ليس سهلاً في غالب الأحيان، فالإنسان يريد أن يغرف وينهل ويبلع من مباهج الحياة ما يمكنه ذلك، وغالباً تكون النتيجة وبالاً مع التقدم في العمر. فنحن نطرب لسماع أم كلثوم تشدو بكلمات الفارسي عمر الخيام، بالأبيات التي تطالبنا بأن نغنم من العيش لذاته، «لأنه» ليس في طبع الليالي الأمان، وهذا صحيح، ولكن ماذا لو طال العمر بالإنسان، وانتهى منهكاً مثخناً بالجراح الداخلية، ينتظر الموت والآلام تنهشه من كل صوب، وأهله في قلق عليه، مسبباً لهم كل أنواع العذاب؟ هنا تصبح الكرامة كلمةً لا معنى لها مع كل المحاولات شبه المستحيلة للبقاء على قيد الحياة، وهذا أمر طبيعي مع الغالبية. لكن أعداد الراغبين في الموت الرحيم أو النهاية «الملطفة» بازدياد، وهي الطريقة الوحيدة التي تعطي الإنسان ميتة كريمة ولائقة، من دون عذاب ولا بهدلة للنفس ولا للغير، ولكن الأمر يتطلب عادةً درجةً ما من الإدراك والقوة، وخير من يعرف معنى الموت هم الأطباء، فهؤلاء عادة لا يلحون على إبقاء أنفسهم، أو مرضاهم، الميئوس منهم، على قيد الحياة! وهنا يقول الدكتور الأمريكي كن موراي إن أحد زملائه شعر يوماً بآلام داخلية حادة تبين منها أنه مصاب بسرطان بنكرياس متقدم! وعلى الرغم من معرفته أنه بإمكان مَن شخَّص مرضه إطالة عمره بنسبة لا تقل عن %15، وإن بمستوى معيشة بائس جداً، فإنه اختار إغلاق عيادته، وقضاء ما تبقى له من عمر مع أسرته!
وعلَّق د.موراي بأن الأطباء، مثل غيرهم، يموتون أيضاً، ولكن تجاربهم الطبية تجعلهم غالباً أكثر هدوءاً وتقبلاً للمرض، وحتى للموت، لأنهم يعرفون بدقة ما سيحصل لهم والمراحل التي سيمرون بها، إلا أن أعداداً متزايدة منهم أصبحوا يختارون الموت بكرامة وهدوء، وحثَّ زملائهم وأسرهم لوضع حد لحياتهم، متى حان وقت رحيلهم! فهم على غير استعداد مثلاً، عند إصابتهم بذبحة صدرية، وفقدهم الوعي وتوقف القلب عن القيام بوظيفته، للتعرض للصدمات الكهربائية، أو إعطائهم cpr، وما قد ينتج عنه من كسر ضلوع في محاولة لإعادة الوعي لهم بدفع الدم لأدمغتهم، إضافة لما سينتج عن ذلك، إن نجحت الصدمات الكهربائية أو ضغطات اليد المتتالية، في مكوثهم بغرف العناية المركزة، شبه أحياء، بمساعدة معدات طبية، قبل أن يموتوا في النهاية بطريقة متعبة لهم ولأهاليهم، فليس هناك أسوأ من عمل ثقوب في جسد المريض وإدخال الخراطيم الطبية الدقيقة فيه، وتسريب الأدوية والأغذية له من خلالها، وبمساعدة أجهزة معقدة تعمل ليلاً ونهاراً وبإشراف فريق من الأطباء، كل ذلك على أمل أن يعود يوماً للحياة الطبيعية. والغريب أن عدداً من كبار رجال الدين كانوا الأكثر حرصاً على المكوث لأطول فترة في غرف العناية... لعل وعسى!!
هذه وجهة نظر يسهل الحديث فيها، لكن الذي يده في النار ليس كغيره، فمعذرة إن كان في كلامنا تجريح لمشاعر أحد، فالحياة ليست دائماً زهوراً يانعة وأطفالاً رائعين ومناظر خلابة وسفراً سعيداً، بل هي أيضاً معاناة ومرض وآلام وحزن!
أحمد الصراف