الليبرالية والذكاء البشري

بعد فترة قصيرة من قيام إحدى الصحف المحلية بنشر مقال مثير للاشمئزاز والتقزز لأحد كتابها اتهم فيه الليبراليين بأنهم يمارسون الجنس مع بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم، نشرت مجلة «ناشيونال جيوغرافكس» المرموقة مقالا في عدد مارس الماضي لخصت فيه بحثا سبق أن نشر في دورية social psychology quarterly للبريطاني ساتوشي كنازاوا، أستاذ علم النفس التطوري في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، حيث ذكر فيه أن الذكاء، وخاصة ما تعلق منه بقدرتنا على حل المشاكل التي تواجهنا فجأة ومن ثم التفكير بطريقة منطقية للتعامل معها وحلها، له جانب جديد لم ينتبه اليه أحد من قبل. وأعطى مثالا على ذلك كيفية التعامل مع حادثة نشوب حريق مفاجئ في الغابة، فكارثة مثل هذه نادرة الوقوع في حياة سكان مجتمعات كثيرة، ولا تحدث يوميا، وبالتالي فإن الاستجابة لها لم تكن يوما من الأمور التي اعتاد أسلافنا على التعامل معها بصورة مستمرة، فلم تنقل لنا تجاربهم معها من جيل لآخر، خصوصا أن النجاة من الحريق والتعامل معه يتطلبان عادة القدرة على اتباع أسلوب تفكير جديد ومن ثم تملك الإرادة على تجربة تلك الطريقة، وهنا يصف البروفيسور كنازاوا الذكاء العقلي بأنه الميل نحو اتباع قيم وخيارات اجتماعية غير مألوفة، وهذا باعتقاده يخلق لدى الأذكياء ميلا أكبر لتبني قيم اجتماعية وتصرفات أكثر حداثة وجدية في حياة البشر، كالليبرالية والحرية الدينية ورفض الخلود للنوم المبكر، ضمن أمور كثيرة أخرى. كما لاحظ أن أفراد هذه الفئة لا يميلون الى تعدد علاقاتهم الزوجية، كما أن رفضهم للمؤسسات الدينية المتزمتة يجعل عقولهم تتعامل بطريقة أفضل مع مستجدات الحياة.
وقد قام العالم كنازاوا بإجراء تجربة أخضع فيها عددا من الطلبة المراهقين لاختبارات ذكاء نموذجية يمكن من خلالها قياس مستويات ذكاء كل واحد منهم. وقام بعد سبع سنوات بمقابلة الطلبة أنفسهم وسؤالهم عن معتقداتهم الدينية والسياسية فتبين له أن أولئك الذين اعترفوا بأنهم أكثر ليبرالية دينيا وسياسيا هم الذين سبق ان حصلوا على درجات ذكاء أعلى من غيرهم في تجربته السابقة. وعلى الرغم من أن الفارق بين الطلبة الليبراليين الأذكياء وغيرهم لم يزد في المتوسط عن 11 نقطة فإن هذه النقاط باعتقاد البروفيسور كنازاوا كافية لتحديد الفرق.
فالليبرالية بنظره، في جزء منها، تعني الاهتمام العميق برفاهية وسلامة عدد كبير من البشر الذين لا نعرفهم والذين ربما لن نلتقي بهم في حياتنا، وهذا الاهتمام بحد ذاته مفهوم جديد على الجنس البشري. فتاريخيا كان الإنسان، حتى فترة قصيرة، لا يهتم بغير عائلته المباشرة وأصدقائه، ولم يكن للغرباء نصيب لديه، ولكن الوضع في عالمنا اليوم تغير بشكل جذري وأصبح أكثرنا ليبرالية أكثرنا اهتماما بقضايا البيئة ورفاهية وسلامة الشعوب الأخرى، والعكس صحيح!!
وجهة نظر قابلة للنقاش.

الارشيف

Back to Top