أنا أحبك وأنا جاسوس
في فيلم أميركي مشوق قالت الفتاة لوالدها الذي كان يراقصها في حفل زفافها: إني أحبك يا أبي! فرد قائلا: وأنا أحبك أكثر. فقالت: لماذا كلما قلت لك إني أحبك ترد علي بأنك تحبني أكثر؟ فقال: انتظري حتى يصبح لديك أبناء لتعرفي ما أعنيه!
وهكذا نحن نشتكي ونتألم ونقاسي الكثير مما يفعله أبناؤنا بنا، ولكننا نادرا ما نتذكر ما سببناه لوالدينا من آلام وقلق. فحبنا لهما لم يكن يوما بمقدار حبهما لنا. وقد ذكرني المشهد السينمائي بتجربة مررت بها قبل 42 عاما عندما سجنت في العراق، وكان ذلك بعد حرب «الأيام الستة» بأشهر، وكنت وقتها أدير قسما صغيرا في بنك الخليج، فقد قررت يومها انا وصديق السفر في إجازة إلى إيران، عن طريق البصرة، كما كان يفعل أقراننا بحثا عن الإمتاع والمؤانسة، وكذلك لغرض بيع سيارتي الفورد الموستانغ هناك، بعد أن تأثر سعرها في الكويت وندرت قطع غيارها نتيجة مقاطعة الدول العربية للشركة المصنعة. وفي المركز الحدودي عثر مفتش مركز صفوان على بعض الأجهزة الكهربائية معي واعتبر الأمر تهريبا، وأن علي دفع غرامة مالية كبيرة، ولكن بالبحث أكثر عثر في درج السيارة على رسالة موجهة لإسرائيل! وهنا تم التحفظ علي وأرسلت مخفورا، بتهمة التخابر مع العدو، لإدارة مكافحة التجسس في البصرة. وهناك شرحت قصة الرسالة وكيف أن موظفا فلسطينيا من أهالي غزة يعمل معي في القسم، طلب مني، بعد أن علم بنيتي السفر إلى إيران، أن أساعده في إرسال رسالته من إيران، لوجود علاقات وقتها بين نظام الشاه وإسرائيل، فربما تصل لأهله الذين انقطعت صلته بهم كليا.
تفحص «الخبير» العراقي الرسالة بتمعن شديد وقربها من الضوء ووضع قطرات من سائل خاص على بعض حروفها، ربما لكشف الحبر السري، وعندما لم يجد شيئا قرر سجني وإحالة الرسالة الى مختبر متخصص! أثناءها عاد من كان معي ليخبر أهلي بالقصة وليقوم والدي بإرسال سائقه، وكان فلسطينيا يعمل أخوه الأكبر في مهنة معروفة للكثيرين في البصرة، ليساعدني في الخروج من ورطتي، وهكذا كان، ولكن بعد أن مرت علي أيام أربعة متعبة، ولولا الطعام «الفاخر» الذي كان يرسل لي داخل السجن، والذي ساعدني في كسب مودة الكثير من المجرمين في داخل المعتقل لكانت معاناتي أشد بكثير!
وخلال هذه المعاناة، وغيرها الكثير طوال 60 عاما، لم أفكر يوما بما تسببت فيه تصرفاتي وحماقاتي وحتى أمراضي من آلام وقلق وسهر وسهد لوالدي، فنحن غالبا ما نتعامل مع محبة الوالدين كأنها أمور مسلم بها، وهي كذلك، وأن محبتهما لنا أمر مفروغ منه، وهذا صحيح، ولكن علينا، لكي تستمر إنسانيتنا، ألا ننسى فضلهما علينا وأن نسدد ولو جزءا صغيرا من حقهما علينا، وهذا المقال إقرار مني بذلك.