زغلول و«الايفانجلستس» (1/2)
لم تخل فترة من التاريخ من وجود من يسعى للاستفادة من حاجة الآخرين لتفسير الظواهر الطبيعية، خاصة ما تعلق منها بما وراء الطبيعة. ومن هنا كرس الكثير من اصحاب المواهب والقدرات غير العادية والمفوهين من الخطباء وقتهم لشرح هذه الامور، سواء كمصلحين او متكسبين، او من الساعين لكسب احترام الغير. وكانت حياة رجل الدين، او الوسيط والمفسر، تتسم عادة بكم كبير من الزهد، كما هم رجال الدين الهندوس، والبوذيون ورهبان الأديرة وحتى من بعض المسلمين الذين عرفوا بتفرغهم للدعوة الصادقة ابتغاء الاجر وخدمة الغير. ولكن مع انتهاء الحروب الكبرى واستقرار الدول وظهور التلفزيون وانتشاره كأداة ترفيه وتثقيف وترويج لمختلف البضائع، فقد استخدم البعض من رجال دين وغيرهم وسائل الاعلام الجديدة والواسعة الانتشار لترويج معتقداتهم ودياناتهم، وكان الايفانجلستس evangelists، او المبشرون بالبروتستانتية، وهو المذهب السائد في اميركا واجزاء من اوروبا الغربية من اوائل هؤلاء. وقد تمكن هؤلاء المبشرون، عن طريق برامج التلفزيون ووسائل الدعاية الاخرى، من تحقيق ثروات خيالية، لانفسهم وكنائسهم، مما وفر دعما لمعتقداتهم من جهة ووفر مستوى معيشيا غير عادي لهم بكل المقاييس.
وقد فضحت وسائل الاعلام نفسها الكثيرين منهم، بعد افتضاح طرقهم وتلاعبهم بمئات ملايين الدولارات، وقد ادى ذلك الى تأثر الموارد المالية للكثير من الايفانجلستس. ولكن عجلة التبرع للكنائس والجمعيات الدينية الخيرية عادت الى سابق عهدها مع زيادة التطرف الديني في العالم الاسلامي والعربي بالذات، لتبلغ ذروتها مع احداث «غزوة» الحادي عشر من سبتمبر الكبيرة، والتي كان لها الاثر الايجابي العميق في زيادة عدد مرتادي دور العبادة وزيادة تبرعاتهم لكنائسهم.
وكما اخذنا عن الغرب فكرة المسلسلات التلفزيونية والمسابقات والخدع السينمائية وطرق ترويج البضائع وخلق الحاجة لها عن طريق الاعلان الذكي، فقد اخذ البعض، عنهم، فكرة التكسب من الدين، وهو ما لم يكن معروفا بمثل تلك الفجاجة والقوة قبل انفجار ارصدة حسابات الافراد والدول الخليجية العربية! فأين دعاة اليوم من نجوم التلفزيون الذين لو قارنا طريقة معيشتهم بمعيشة الزهد والتقشف التي كان عليها، ولايزال، رجال دين حقيقيون، لشعر الكثيرون بالخجل مما يجري من متاجرة بالدين وكذب وخداع وتدليس، والأخطر من ذلك أن أحداً لا يكترث بالسؤال عن صحة ما يقوله هؤلاء الدعاة الجدد أو ما يروجون له ولا في معرفة حقيقة قصصهم ورواياتهم.
وقد كتب محمد عطيف في موقع «إيلاف» الإلكتروني ان الداعية سلمان العودة وقع عقداً «خيالياً» لسنة واحدة مع قناة فضائية شهيرة مقابل مبلغ 12 مليون ريال! وقال إن من المفترض ان الدعوة يجب أن تتم لوجه الله ومن دون مقابل، وأن هناك حرباً إعلامية مستعرة بين القنوات على الفوز بالدعاة، وحرباً أخرى بين الدعاة أنفسهم للفوز بأكبر العقود وأسمنها. وقد زادت شعبية هؤلاء، وزاد الطلب عليهم مع وقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر، وقبلها بسنتين، وما سبق ذلك ورافقه وتبعه من تهجم ونقد جارح لمعتقدات الآخرين وطقوسهم.