الهند لهم والحزن لنا
من الأمور المثيرة للشفقة أن الكثيرين منا يستسهلون السخرية من شعوب العالم الأخرى، والهنود، كمثال، وكأننا شعب مثالي كامل الدسم والأوصاف. ولو تمعنا، ولو للحظات، في ما حققه الشعب الهندي في العقدين الماضيين فقط، بالرغم من تعدد أعراقه واختلاف دياناته وتنوع وتشعب لغاته، سواء على المستوى الاقتصادي، السياسي، أو حتى الأخلاقي، لأصابنا إحباط وخجل كبيران لسخف آرائنا وتواضع ما قدمناه للبشرية مقارنة بهم، بالرغم من كل ادعاءاتنا التاريخية بالسؤدد والرفعة. ولسوء الحظ فإن هذا الاحباط لن تشعر به الغالبية منا، وسنبقى على جهلنا و«عمانا» لأننا، ببساطة شديدة، لا نقرأ، وبالتالي لا نعرف حقيقة موقعنا وموضعنا بين دول العالم الأخرى، أو لا ندرك مقاييس الحكم على تقدم أو تطور شعب مقارنة بآخر!!
في الانتخابات النيابية التي جرت في الهند أخيرا شارك 62% من جملة الناخبين البالغ عددهم 720 مليون في الإدلاء بأصواتهم.
وهي نسبة تزيد على نسبة أية دولة عربية ديموقراطية.. ان وجدت!! وبالرغم من كل السلبيات التي رافقت الانتخابات فانها جرت، بشهادة جميع المراقبين الأجانب، بهدوء، وتوجه فيها الناخبون لعشرات آلاف مراكز الاقتراع وصوتوا ضد الشقاق السياسي والطائفي والطبقي، وضد ألعاب القوى المتصارعة، مع عدم تناسي خلافاتهم، والفوارق بينهم.
تمتلك الهند الكثير الذي بإمكانها الفخر به، وربما يكون احدها اصرارها المستمر على اظهار الجانب الايجابي لديموقراطيتها، التي نفتقد لأبسط مكوناتها. ففي انتخابات عام 1977 مثلا صوت الهنود بأغلبية ساحقة ضد أنديرا غاندي، ابنة الشعب المدللة والبيت السياسي العريق، وأخرجوها من السلطة. ولا تعرف الهند، منذ استقلالها في منتصف القرن الماضي، أية أحكام أو انقلابات عسكرية وبقيت ديموقراطيتها قريبة من الكمال بمعنى الكلمة.
وقد كتبت «نيويورك تايمز» في احد اعدادها الاخيرة الفقرة التالية عن الهند «... هي موطن ظهور الهندوسية والبوذية والجانية والسيخية، وفيها ثاني اكبر تجمع اسلامي في العالم، كما عاشت فيها المسيحية منذ الفي عام، وتواجد فيها اليهود منذ ان هدم الرومان «هيكلهم الثاني»، وتقع فيها اقدم معابد اليهود في العالم، كما تستضيف الهند حكومة التيبت في المنفى، وفيها يقيم «الدالاي لاما» منذ ان طردته الصين من موطنه قبل اكثر من 30 سنة. والى الهند لجأ الزرادشتيون الفرس (المجوس) قبل اكثر من الف عام، هربا من بطش المسلمين بهم، ورحل اليها واستوطنها الارمن والسوريون وغيرهم منذ قرون عديدة وجعلوها وطنهم النهائي. والهند هي التي وصفتها ارفع المؤسسات المالية العالمية بكون اقتصادها الاسرع نموا، حيث ينجح سنويا في انتشال 40 مليون معدم الى ما فوق خط الفقر بكثير، وهذا يعني ان الهند ستنجح في 2025 في جعل عدد شريحة الطبقة المتوسطة فيها يقارب كامل سكان الولايات المتحدة الاميركية!! كما يمكن ملاحظة مدى حيوية الشعب الهندي من خلال ما تنتجه الهند من افلام وفنون متعددة اخرى واقتصاد مزدهر وصناعات عالية الدقة ومنتجات تشمل كل قطاع ومجال، كما انها مكتفية ذاتيا من الغذاء والدواء، ولم يتأثر اقتصادها الا قليلا بالازمة العالمية الاخيرة، وكان من المفترض ان يشكل هذا النجاح حافزا لشعوبنا وان نتوقف عن نقد الهند والهنود، خصوصا عندما نعرف مدى الفارق العلمي والخلقي والصناعي الذي يفصلنا عنهم، ولكن، لسوء حظ الكثيرين منا، كما سبق ان ذكرنا، فان هذا لا يمكن ان يحدث، لاننا ببساطة شعوب متغطرسة على الفاضي، فما اقل حيلتنا وضآلة اهميتنا.. وطول لساننا!!