معركة الحضارات والقيم
{أن نكون طائفة مؤمنة ترفع راية الجهاد لا يعني أن غيرنا عكس ذلك. كما لا يعطينا ذلك الحقَّ في أن نرمي أنفسنا في التهلكة لمجرد أن موتانا... شهداء}
* * *
يعتقد الكثير من مؤيدي حماس وحدس والسلف أن جميع الأمور الخلافية ومشاكل الحدود، وحتى قضايا الوجود، لا يمكن أن تحل بغير البندقية والسيف، فهكذا فعل السلف وهكذا نجحوا، فما الذي يمنع من تكرار التجربة لألف مرة؟! وينطلقون في تصوراتهم هذه من منطلقات دينية لا تضع كبير اعتبارٍ لأمور استجدت على الساحة الدولية، كمجلس الأمن وتخطيط الحدود والمواثيق الدولية وحسابات الربح والخسارة في الميادين العسكرية، وغلق الحدود والأجواء، والمقاطعة بأشكالها كافة، وغير ذلك الكثير. فأن نكون على حق والنصوص الدينية تدعم حقنا لا يعطي {قادتنا} {كارت بلانش} للزج بنا في المعارك والوقائع والحروب من دون إجراء حسابات دقيقة تبرر قراراتهم! فهل استُشير غزّاوي واحد، مثلا، في قرار عدم تجديد الهدنة واستفزاز إسرائيل بصواريخ لا طائل من ورائها، لكي ندفع جميعا هذا الثمن الباهظ في الأرواح والممتلكات؟ لقد سئم الجميع تصريحات هؤلاء الزعماء، بعد انتهاء كل معركة، بأنهم لم يتوقعوا كل ذلك العنف في ردّ {عدوهم}، أو أن الخسائر في الأرواح وأعداد المصابين والدمار المادي كانت خارج تصورهم، وإننا بعد كل ذلك من المنتصرين! وبهذه المناسبة أتذكر تصريحا لأحد كبار مسؤولي الحكومة الكويتية في المنفى لمحطة {بي بي سي} أثناء الاحتلال العراقي، قال فيه إنه يريد استرداد الكويت، ولو كانت أرضا محروقة! فهذا الكلام لا معنى له، فالأرض لا تساوي شيئا من غير مَن عليها!
ظاهرتان في الصراع الدائر بين الفلسطينيين، ومن خلفهم العرب من جهة، وإسرائيل، ومن ورائها بعض الغرب، من جهة أخرى، لا يعترف بهما إلا قلة، وهما أننا انهزمنا شر هزيمة في كل معركة وميدان تواجهنا فيهما مع إسرائيل، وأن هذه الأخيرة بالتالي في وضع أفضل منا بكثير في {كل شيء}، أكرر {كل شيء}! ومن بإمكانه دحض هاتين الظاهرتين الأقرب إلى الحقيقة فعليه ألا يتردد، فالنفس عطشى إلى المعرفة.
ولعكس هذه المعادلة أو على الأقل تضييق الهوة بين الجانبين، يجب أولا التوقف عن إلقاء كل كسلنا وتخلفنا وقلة إنتاجيتنا على إسرائيل، فقد ولّى ذلك الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة قميص عثمان لكل متعطش إلى السلطة مستميت على التكسب من السياسة، وأصبح البعض، لا الشعوب، أكثر إدراكا ووعيا من قبل. فبغير النهضة العلمية والثقافية والفكرية الشاملة في عدد من دولنا، إن لم يكن كلها، لا يمكن أن تعود إلى الشعب الفلسطيني حقوقه، وحتى لو استرد أرضه بالقوة، فإن الجهل سيضيعها مرة أخرى، كما حصل في أكثر من موقعة ومعركة. إذن المعركة بين الفلسطيني والإسرائيلي هي معركة حضارة وتقدم وتميز، وليست معركة مدفع هاون ورشاش ودبابة وصواريخ محلية الصنع وسيوف وخناجر!
في دراسة نشرت على الإنترنت، وذكر أن واضعها مصرفي كبير من ماليزيا، وردت الأرقام التالية عن يهود العالم الذين يبلغ عددهم 14 مليونا، يعيش نصفهم في اميركا، و5 ملايين في إسرائيل، ومليونان في اوروبا، حيث يقول الباحث إن عدد المسلمين يكاد يبلغ مائة ضعف عدد اليهود، لكن تفوُّق هؤلاء واضح في كل ميدان. ويقول إن سبب ذلك يعود إلى أن غالبية صانعي ومحركي تاريخ البشرية الحديث من أمثال آينشتاين وسيغموند فرويد وكارل ماركس وبول ساميولسون وميلتون فريدمان، وواضعي حجر أساس الطب الحديث من أمثال بنجامين روبن (التطعيم) وجونز سالك (تطعيم الشلل) وجرترود إليون (دواء سرطان الدم) وبول اهرليش (علاج مرض السفلس) وإيلي ميتشانيكوف، وغيرهم من كبار الأطباء ومكتشفي الأمصال والأدوية التي أنقذت أرواح مئات الملايين في العالم أجمع، هم يهود. وورد في الدراسة أن من أصل 14 مليون يهودي فاز 108 بجوائز نوبل، في الوقت الذي لم يفز فيه المسلمون إلا بثلاث جوائز، إحداها للسلام(!).
أما في عالم الاختراعات التي غيّرت وجه التاريخ فإن هناك ستانلي ميزو مكتشف الميكروشيب، وليو زيلاند مكتشف مفاعل الطرد النووي، وبيتر شولتز مخترع ألياف الفايبر أوبتك، وغيرهم من مكتشفي ومطوري إشارات المرور والستانلس ستيل والصوت في الأفلام السينمائية وسماعة الهاتف وآلة التسجيل بالشريط، ومؤسس شركة ملابس البولو والكوكاكولا، وملابس الجينز وسلسلة الستارباكس، وغوغل ودل وأوراكل، وأزياء دونا كارون، وباسكن روبن وغيرها الكثير، هم من اليهود. كما أن هناك العديد من السياسيين من أمثال هنري كيسنجر، ومديري جامعات عالمية مرموقة، وأصحاب دور نشر، ومالكي صحف ومجلات ذات تأثير كبير، وغيرهم العشرات في أكثر من مجال مؤثر، هم من اليهود.
ويتساءل المصرفي عن السبب في تقدمهم على الرغم من قلّتهم، وتأخرنا على الرغم من عددنا الهائل؟ ويجيب بأن ذلك يكمن في فقدنا القدرة على صنع المعرفة! ففي الدول الإسلامية الـ57 كافة 500 جامعة فقط، وهو عدد تافه عندما نعلم أن في الهند 8407 جامعات، وفي الولايات المتحدة 5758 جامعة(!). كما أن أيا من جامعات الدول الإسلامية ليست ضمن قائمة الخمسمائة الأولى في العالم. وإن نسبة التعليم في الغرب أكثر من 90%، ونسبة الأمية في الدول الإسلامية تزيد على 40% في المتوسط. وتصبح المقارنات أكثر إيلاما عندما نرى نسبة ما لدينا من فنيين وأطباء ومهندسين، مقارنة بما لدى غيرنا.
وعلى الرغم من أن الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب العربية تعلّماً، وعلى الرغم من الثروات الهائلة التي جنتها دول الخليج من بيع نفطها، فإن الطرفين، دع عنك البقية، فشلا في تحقيق أي إنجاز علمي، ولو كان متواضعا!
ولكن كيف يمكن الفلسطيني المشرد بملايينه السبعة بين الضفة وغزة والأردن ولبنان وسوريا ودول الخليج والشتات الأوروبي والأميركي أن يصل إلى المستوى العلمي والتعليمي والثقافي الذي وصل إليه اليهود في العالم، ومكّنهم في نهاية المطاف من خلق دولة إسرائيل؟
الجواب بسيط بقدر ما هو صعب: أن تحذو القيادة الفلسطينية (!) حذو الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية العالمية. فاليهود، قبل تأسيس دولتهم في فلسطين، كانوا يعيشون في الشتات، كما هو حال الفلسطينيين منذ 60 عاما. وبالتالي القضية الفلسطينية بحاجة إلى هرتزل فلسطيني لا إلى قيادي حماسي، وبحاجة إلى بن غوريون فلسطيني لا إلى منظمة فتح، وبحاجة إلى قيادة موحدة ذات رؤية واضحة، وبحاجة إلى صندوق فلسطيني خال من العيوب والثقوب، والأهم من ذلك أن يضع الفلسطيني {فلسطينيته} قبل أي أمر آخر. فما قضى على القضية في مقتل هو تفرق رجالها وتعدد انتماءاتهم العقائدية، بمشاربها كافة، التي كانت دائما وأبدا توضع في مرتبة أعلى من القضية نفسها!