كلام الناس علاقة الموسيقى بالمرض (1ــ2)
لو نظرنا إلى طبيعة وظروف الحياة في الجزيرة العربية اليوم، لوجدنا انها في غالبيتها لم تختلف كثيرا عما كانت عليه قبل آلاف السنين، خصوصا اذا أزلنا ما جلبته اموال البترول من ادوات وآلات ومظاهر حضرية، كالمركبات والبنايات والمدارس والملاعب والمساكن الفخمة التي تتناثر هنا وهناك، فطبيعة المنطقة لا تزال بشكل عام تتسم بطابع شديد الرتابة والبساطة والتواضع الى درجة الخشونة القاسية، فحياة الحل والترحال التي اتسمت بها حياة الاعرابي من جهة، ورتابة حياة عرب المدن من جهة اخرى، وآلاف السنين، وجفاف البيئة الناتج عن شح المياه وقلة الموارد والمواد وخلوها من الباهر من الالوان والاطياف، كل ذلك اثر بطريقة او بأخرى على المسلك والمأكل والمشرب والمسكن ومختلف انشطة الحياة سواء المعيشية منها او الترفيهية.
فآلة الربابة ذات الوتر الواحد، هي الوحيدة التي عرفتها المنطقة منذ القدم ولا تزال تستعمل بوترها اليتيم المنسجم مع قلة ما في الطبيعة الصحراوية من اصوات اصلا.
في هذه البيئة القاسية والجافة نجد ان الموت مثلا لا يحظى بذلك الاهتمام الذي عادة ما يلقاه في اماكن اخرى، كما لا تتسم طقوس التعزية بأي مظاهر صارخة في وقارها وهيبتها، كما هي الحال عادة في البلاد والمناطق وحواضر المدن القديمة المجاورة لها ذات الانهار والشطوط، فحالة الموت المفاجئ التي تقع مثلا اثناء سير القافلة او ترحال القبيلة من مكان لآخر، بحثا عن الماء والكلأ او في طلب الغزو او التجارة، كان يتم التعامل معها بأقل ما يمكن من مراسم وطقوس، فالدفن يتم خلال لحظات وينتهي العزاء بكلمات مقتضبة ليستمر الركب في سيره ولتعود الحياة الى رتابتها المعتادة بعد دفن الميت في قبر لا يكاد يرى من فرط تساويه مع الارض، فلا شاهد يميزه ولا ألواح رخام تغلفه ولا ادوات ومواد حفر وبناء ترفعه، وكل هذا بسبب فقر البيئة وظروف الزمان والمكان التي لا تحتمل الترف او تأخر الركب.
وفي السياق نفسه، نجد ان الموت لا يتطلب التعامل معه في هذه البيئة بارتداء الداكن من الثياب، كما هو شائع في مناطق اخرى، ولا تقام للميت قبور كبيرة او عالية او أضرحة، كما انهم لا يعرفون شيئا عن اسبوع الميت واربعينيته وسنويته، فهذا الرفض لم ينطلق من واقع ديني بقدر تأثره بظروف البيئة وفقرها وقسوتها التي فرضت نفسها فرضا على تصرفات البشر في تلك البقعة من الارض، وفي كل المناطق المشابهة لها.
نجد الامر ذاته ينسحب على مختلف انشطة المنطقة الترفيهية، حيث تكاد تنعدم فنون العزف الموسيقي، غير دقات بسيطة وشبه بدائية علي الربابة او الدف! اما آلات العزف الاخرى، التي جلبت لاحقا للمنطقة في فترات لاحقة، فإنها لم تجد قبولا او رواجا خارج نطاق قصور الحكام والموسرين، وبالتالي كان من السهل على رجال الدين عدم تشجيع استخدامها او حضور مجالس عزفها والغناء معها، ووصل الامر في مرحلة ما الى تحريم استخدامها وتحريم الغناء بشكل تام.
كما نجد ايضا ان الفنون الاخرى، كالنحت والرسم والتمثيل المسرحي والحفلات الموسيقية لم يعرفها اهل المنطقة بشكل عام بسبب النقص الشديد في المواد والادوات التي يتطلبها اداء مثل هذه المهارات، اضافة الى شبه انعدام حالة الاستقرار السياسي او البيئي اللازمة لتطور اي فن او اي ثقافة.
ولو نظرنا للتعاليم الدينية بشكل عام لوجدناها انعكاسا للبيئة التي خرجت منها. فالبيئة الخشنة والبسيطة لا يمكن ان يخرج منها دين لا يتسم بهذه الصفات نفسها، كما نجد ان انتقال الدين، اي دين، لبيئة اخرى، تدخل عليه تحولات جذرية تجعله اكثر انسجاما مع البيئة الجديدة، فمهما كانت سطوة او قوة تعاليم اي معتقد في تشكيل الوعي والتصرف، فإننا نجده اكثر مرونة وتقبلا لعادات وتقاليد المكان الجديد، وبالتالي نجد طقوس الحياة اليومية، سواء ما تعلق منها بالولادة او الزواج او الموت او طرق الاحتفال بالاعياد والمواسم، تختلف من بيئة لاخرى، وعلى الرغم من وحدة الايمان بمعتقد واحد!
ففي المجتمعات التي دخلها الاسلام في مرحلة لاحقة نجد انه لا تزال للموت رهبته وطقوسه المعقدة التي لا فكاك من الالتزام بها على الرغم من مظاهرها الوثنية السابقة للاسلام، فالموت كارثة ويتم التعامل معه على هذا الاساس بكل ما يعنيه ذلك من بكاء ولطم وتعفير تراب وشق جيوب، مع تكرار استمرار العزاء لاسبوع او 40 يوما، والاحتفال به سنة بعد اخرى، كما تشيد للموتى قبور عالية وتغطى بقطع رخام، وتوضع لمقابر الاغنياء والكبار اسوار وتخصص لها مبان وقطع كبيرة من الاراضي، ويتطور الامر في بعض الدول ليصبح القبر مزارا تشد اليه الرحال بين الفترة والاخرى، كما هي الحال في مصر وايران والعراق وبلاد الشام ودول جنوب شرق آسيا وجمهوريات آسيا الاسلامية الاخرى!