غيمة التخلف السوداء

ما يحدث في لبنان لا يعدو ان يكون نتيجة لسياسات الجهل والتجاهل التي اتبعناها، حكومات، وشعوبا، لعقود طويلة مع شعوبنا ودولنا وبين بعضنا مع بعض حتى نخر سوس التعصب فينا.
لاشك ان لبنان ضحية، ولكنه ضحية شعبه، ومن يسمون بأمته العربية من حوله، قبل ان يكون ضحية لاسرائيل! هذا هو الواقع الذي نرفض الاعتراف به، وهذه هي الحقيقة التي لن نرضى بقبولها!
من منا، لبنانيين وغير ذلك، لا يحب لبنان، وكرز لبنان وجمال لبنان، وجبال لبنان وبواديه ووديانه وصفصافه وشمسه وهواءه وصيفه وشتاءه وكل ما يبدعه شعبه من خدمة وصناعة وفن وضيافة! ولكن من منا، لبنانيين وغير ذلك لا يحترم لبنان بكل مكوناته من احزاب فاشية وتجمعات طائفية وكنائس ومساجد ورعب وفقر مدقع وثراء فاحش وتهريب سلاح وزراعة حشيش وتفرقة على الهوية والاسم والشكل والقرية والمنطقة والمذهب والدين؟!
قلة هم اولئك الذين يكنون الحب للبنان بالقدر نفسه لاحترامهم له، ومع قلتهم فانهم في اضمحلال مستمرِ فلبنان هو وطن المحبة وفي قلوب جميع 'المواطنين' اللبنانيين طالما كان لبنان لبنانهم ومدينتهم وضيعتهم ومذهبهم ودينهم وزعيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة رقص دبكتهم وطبخ كبتهم! اما غير ذلك فانهم مجموعة من المتعصبين او المتخلفين، او في احسن الاحوال 'المعترين'.
ولهذا، فكل طرف على غير استعداد لمحبة لبنان الاخر واحترامه، ولا يسعى لان تبقى منطقته نظيفة او آمنة او تستحق الزيارة او الاكل فيها او حتى مصاهرة اهلها، وهي بالتالي مستباحة، او مكروهة الى اقصى الحدودِ وان تطلب الامر ان تحرق او تدمر، فسوف يكون هناك دائما من هو على استعداد للقيام بالمهمة!
اعلم بان في قولي هذا قسوة شديدة ولوما اشد، وقد يرى البعض في الامر مبالغة غير مبررة، ولكن الم نر في حرب الثمانينات الاهلية كيف دكت مدافع حزب الله وحركة امل قرى بعضهما بعضا وفي كل جانب وطرف اخ وشقيق للاخر؟ او لم نر قواتهما تلتحمان في معارك ضارية في شوارع بيروت والضاحية الجنوبية مستعملتين كل ما كان تحت يديهما من سلاح فتاك؟ ومع هذا لم يعلم نصف الشعب اللبناني وقتها بتلك الحرب ولم يكترث نصفه الاخر بالامر، ومن سمع وعلم قال: 'فخار بيكسر بعضه'!
الم يهلل نصف لبنان الآخر ويدعو بدعاء 'الله لا يردهم' وهو يسمع دوي مدافع 'قوات' جعجع تدك معاقل انصار الجنرال عون، والتي شاركت جميعها في تخريب المنطقة الشرقية وفي قتل ما لم تتمكن كل مدافع وقذائف الاطراف الاخرى من قتله وتخريبه في تلك المنطقة طوال سنوات الحرب الاهلية التي قاربت العشرين عاما!
ان لبنان الجديد يجب ان يبعث، ولكن على اسس علمانية بحتة فالطائفية هي التي خربت لبنان وهي التي ستخرب، او خربت، النسيج الاجتماعي الهش في الكويت وفي البحرين وفي دول كثيرة اخرى، وبالذات عربية ومسلمة! ان الشعوب لا يمكن ان تقسم وتصنف وتجزأ على اسس طائفية وتوزع الامتيازات لفئة وتحرم اخرى لاسباب طائفية لا تستند الى عقل او منطقِ وان تم قبول ذلك في مرحلة ما فإن من الاستحالة استمرار العمل به الى الابد! ان المدافعين عن الانظمة الدينية او الطائفية هم فقط المستفيدون من بقائها وهم المتاجرون بها.
ما ذكره السيد حسن نصر الله من ان ابناء 'محمد وعلي' هم الذين يحاربون اسرائيلِ وانه لم يضع ايضا من الفرقاء الاخرين في حسابه عندما قام بعملية، او مغامرته العسكرية الاخيرة، في اسرائيل يصب في هذا السياق الطائفيِ فهو يود ويصر ويرغب في ان يواجه اسرائيل منفردا و'على مسؤوليته'، وهذا، اضافة الى انه يتجاوب مع ما يدور في صدور نسبة كبيرة من ابناء طائفته من مشاعر متباينة تجاه وطنهم لبنان، هو ايضا صدى لصوت سيد اكبر، وصاحب مصلحة اعظم!
ان لبنان الوطن والشعب والتراب والتراث العريق يدفع اليوم ثمن تجاهله وتأجيله لكل مشاكله ومحاولاته المتعددة لكنسها تحت سجادة التاريخ لعل وعسى ان تحل نفسها وتنتهي! ولكن التاريخ لا يرحم وعذاب الشعوب لا ينسى بسهولة.
فجنوب لبنان، وقبل ان يكون هناك 'امل' وقبل ان تستفحل قوة حزب الله وتخرج عن نطاق سيطرة الدولة، بقي خارج منطقة التغطية الرسمية لعقود طويلة وبمباركة من رؤساء الجمهورية واجهزة الدولة من شمعون ومن جاء بعده، ومن كان قبلهِ فهم الذين رفضوا دخول الجيش في تلك المنطقة وعارضوا بسط سيطرة الدولة عليهاِ وهذا الفراغ هو الذي جعل من ارض الجنوب ايضا مستباحة بعدها ل'فتح والجبهة الشعبية وبقية الفصائل الفلسطينية' وهذا هو الذي ادى، مع الوقت، لان تدخل اسرائيل الجنوب مرارا وتكرارا وتتدخل في حياة اهله وتحتله وتقيم السجون والمعسكرات فيه! وطوال هذا الوقت لم تتقدم جهة لمساعدة اهل الجنوب غير تلك التي يدين لها اليوم 'نصرالله' بالامتنان الكثير!
وما فعله اهل الجنوب الشيعي على استعداد لفعله اهل الشمال السني بالتحالف مع قوة خارجية تقف معهم ان تعرض وجودهم للخطر، والامر يسري على الموارنة وفرنسا والكاثوليك والفاتيكان والبروتستانت واميركا وانكلترا وغيرها!
نعود ونقول ان خلاص لبنان، وأي بلد متخلف ينخر فيه الفساد السياسي، يكمن في الغاء طائفيته، وتحوله الى العلمانيةِ والى ان يأتي ذلك اليوم فإن عذاب لبنان سيستمر ومعاناة اهله ستستمر، وسيستمر في الوقت نفسه تخلف الدول ذات الانظمة شبه الدينية، فالغيمة السوداء قادمة لا محالة!

الارشيف

Back to Top