من أين يأتي الإصلاح؟
يقول مارك توين: 'عندما تجد نفسك في جانب الأكثرية فهذا هو وقت إجراء الإصلاحات'
* * *
على الرغم من مرور سنوات طويلة على قيام جميع الدول الأوروبية، بما في ذلك تركيا الاسلامية، بفصل الدين عن الدولة في جميع المجالات واعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فإن رجل الدين في تلك الدول لم يفقد أهميته ومكانته واحترام الآخرين له ولدوره التربوي والاجتماعيِ بل وبإمكاني التأكيد، من واقع تجربتي الشخصية والطويلة في هذا المجال، أن رجل الدين في تلك الدول يحظى، اجتماعيا على الأقل، باحترام يفوق ما يحظى به مثيله من اتباع الديانات الأخرى خارج القارة الأوروبيةِ
كان لا بد من هذه المقدمة قبل الولوج في موضوع التعليق على المقال المميز الذي كتبه الزميل صلاح الساير في الشرق الأوسط بتاريخ 17/12/2005، والذي سبق أن علق عليه الزميل عماد السيف قبل أيام مادحا ومتسائلا عن سبب عدم نشره في صحفنا المحلية!
يتساءل السيد الساير في مقاله تعليقا على المقررات التي اتخذت أخيرا في القمة الإسلامية التي انعقدت في مكة، والتي تم فيها تبني برنامج عمل عشري دعا البند الخامس منه إلى إصلاح 'مجمع الفقه الإسلامي' وتطويره ليتحول إلى مرجعية فقهية للأمة الإسلامية (!)، يتساءل عن الكيفية التي سيتسنى فيها لمثل هذا المجمع، المغلوب على أمره، تطوير عمل ليس من اختصاصه وحده(!)ِ وقال إن المشكلة تكمن في جنوح مؤسسات المجتمع المدني من مالية وإعلامية وتعليمية وحتى رياضية من جهة للتسربل بمسوح التدين والرهبنة الإسلامية، في الوقت الذي نرى في جهة مقابلة جنوح وتمدد قوى الفكر الإسلامي، أو القائمين عليه، لمشاركة المدنيين، أو العلمانيين، غمار السياسة والرياضة والثقافة والاقتصاد ومناقشة قوانين المرور والنقد السينمائي وغير ذلك من أمور دنيوية بحتة! 'وهذا ما رأيناه وخبرناه في مختلف التوصيات والدراسات العجيبة لهيئة 'تطبيق الشريعة' برئاسة خالد المذكور التي لم تترك مجالا لم تدل بدلوها فيه'!
ويتساءل الساير عما إذا كان بإمكان 'مجمع الفقه الإسلامي' تحمل مسؤوليته الدينية والحضارية والدعوة لفصل الديني عن المدني، وأن يخرج نفسه بالتالي من دائرة البطالة المقنعة؟
ووصل السيد الساير إلى قناعة بأن إصلاح 'مجمع الفقه الإسلامي' مدخل أساسي للإصلاح الديني في بلاد المسلمين، والعرب بالذاتِ وأن مسؤولية ذلك تقع على عاتق 'علماء مسلمين أفذاذ أجلاء' وليس على مبرمجي الكمبيوتر والصحافيين والسياسيين واطباء امراض النساء وسماسرة العقار والممثلات المعتزلات او نحوهم! وتقع على القائمين على المجمع مسؤولية فك الخيوط المتشابكة في العقل العربي لتبقى السلطة الروحية محصنة وراء اسوار المؤسسة الدينية، وبذلك تنصرف المؤسسات العلمانية لإدارة باقي انشطة الحياة دون وصاية من احدِ
***
تساؤلات مشروعة وافكار جميلة واقتراحات لا يمكن لعاقل الاختلاف حول مدى اهميتها ولكن! ابتداء، هل يمتلك القائمون على 'مجمع الفقه الاسلامي'، ايا كانوا وايا كانت توجهاتهم، الحق في اجراء ما يريدون ويشتهون من اصلاحات؟ وهل بإمكانهم، على افتراض رغبتهم في القيام بذلك، جعل مؤسساتهم الدينية منارات يهتدى بها في الشدائد؟ ام ان مسؤولية الامر برمته تكمن في يد السلطة المدنية السياسية التي تمتلك كل خيوط اللعبة، خاصة في عالمنا العربي الاسلامي!
ان تساؤلات واقتراحات الزميل الساير وجيهة ولا يمكن الا الاعتراف بأنها السبيل الوحيد لانتشالنا من الدرك الاسفل الذي وصلت اوضاعنا إليهِ ولكن متى كان اللجوء إلى المؤسسة الدينية السبيل الاكثر عملية لتحقيق هذه الاهداف النبيلة والصعبة في الوقت نفسه؟ وهل يكفي التمني والرجاء لكي تقوم هذه المؤسسات المستفيدة من اوضاعها الحالية بنفض الغبار عن نفسها والانقلاب الشامل على العتيق من مفاهيمها التي تربت عليها لقرون عديدة؟ وكيف يكون بإمكانها تطوير آليات عملها الداخلي من اجل التشرنق حول نفسها والتفرغ لعملها الرعوي الديني الاساسي بعد ان اصبحت ملء السمع والبصر؟ وهل بإمكان رجالها التخلي، وبشكل مطلق، عن سلطاتهم الدينية والمدنية المتداخلة التي تمكنت على مدى قرون، وبموافقة ومباركة مختلف السلطات الحاكمة، من الاستيلاء عليها وتجميعها تحت قبو واحد، من اجل تحقيق سراب في خيال كاتب مثلي او مصلح مثل زميلنا الساير!
ان ما يطالب به الزميل ليس بالامر الهين، بل هو الاستحالة بعينهاِ فما يطالب به يخالف منطق الأمور من وجهة نظر دينية إسلامية بحتة! فما اكتسبته هذه المؤسسات الدينية، او غيرها من وضعية اجتماعية فائقة الاهمية وما استولت عليه من مكانة دنيوية وسلطات وامتيازات مادية لا يمكن ان تتخلى عنه من اجل خاطر دعوة من هنا او دعاء من هناك، خاصة اذا كانت هذه الجهات بالذات تعتقد وتؤمن بأن ما نحن فيه من تخلف لا يعود إلى التداخل في عمل المدني بالديني بل إلى قلة هذا التداخل والتدخل!
ان حركات الاصلاح الديني، على الرغم من قلة عددها وتواضع ما قامت بإصلاحه في القرن الماضي، التي حاولت من خلالها تحريك الساكن من جذور التخلف في العالم الاسلامي، لم تأت قط من مراكز او مجمعات دينية، والعكس هو الصحيح، بل كان وراءها في جميع الاحوال سياسيون مستنيرون، فبغير موافقة ودعم سياسي دنيوي لا يمكن اجراء اصلاح ديني، ففاقد الشيء لا يمكن ان يعطيه! علما بأن هذه المراكز الدينية، التي يطالبها الزميل الساير بأخذ زمام مبادرة اصلاح دور المؤسسة الدينية، كانت، وطوال عقود الجهة التي خنقت كل محاولات الاصلاح التي لم تصب نتائجها في صالحهاِ
وعليه، يمكن القول بأن اي اصلاح ديني لا يمكن ان يأتي عن غير طريق حكومة قوية ومستنيرة، اما المؤسسات الدينية، وفي اي دولة في العالم فيمكن القول ايضا عنها انها لا تميل الى اصلاح نفسها ما لم تكن مضطرة لذلك، وهذا الاضطرار لا يأتي عادة الا اذا احس القائمون عليها بابتعاد المتعبدين والمصلين عنها، وهذا ما لا تشكو منه مؤسساتنا الدينية مع كل هذه التخمة التعبدية التي نعيشها منذ عقودِ