عدد أقل وفهم أ
تتكرر منذ سنوات، إن لم يكن منذ قرون، مقولة 'الإسلام دين الفطرة'، أي دين التلقائية والتصرف الطبيعي غير المصطنعِ وقد ورد في سورة 'الروم': 'فطرة الله التي فطر الناس عليها'ِِ فتلقائية الرضيع التي تخلق معه والتي تدفعه لامتصاص الحليب من ثدي أمه، وردة فعله التلقائية والسريعة عند ملامسة جسده لجسم حاد ما هما إلا نوع من الفطرةِ كما ان قيام الطفل الصغير برفع يده محملة بالطعام باتجاه فمه هو نوع من الفطرةِِ وهكذاِ وحيث ان الطفل بفطرته بدون حاجة لمن يعلمه الطريق الى فمه، فمن باب أولى الا يحتاج الانسان المتعلم والمدرك والبالغ لمن يعلمه كيفية ممارسة شعائر دينه، تماشيا مع مقولة ان الدين دين فطرةِ ولكن على افتراض ان هناك دائما من يحتاج الى من يبين له دينه ويوضح له الفرق بين الحلال والحرام، فان هذه الحاجة وقتية وستقل مع زيادة نسبة المتعلمين بين أي شعبِ كما أن حاجتنا، او حاجة البعض منا، لوجود رموز دينية، لا تبرر بأي حال من الأحوال، وجود كل هذه الهياكل البيروقراطية التي نبتت من حولنا، أو التي أحطنا أنفسنا بها وكأن الحياة لا يمكن ان تسير من غيرها، وهي الهياكل المتمثلة بمختلف الجامعات الدينية ودور ومراكز الافتاء المتعددة و'الحوزات' العلمية في مختلف الحواضر العربية والاسلامية، ومعاهد وكليات الشريعة، والعديد من اللجان والهيئات المتخصصة في الافتاء والتشريع الديني والدنيوي.
والملفت للنظر ان المسلمين عاشوا طوال تاريخهم الممتد على مدى اربعة عشر قرنا تقريبا بدون وجود فعلي لتلك الهياكل وكل ذلك الجيش الجرار من رجال الدين، وعلى الرغم من ذلك لم تتأثر معتقداتهم الدينية ولم تتغير مفاهيمهم الانسانية ولم يتزعزع إيمانهم كما حصل في السنوات الثلاثين الماضية، رغم تعدد وتباين المدارس ومصادر 'المعرفة والعلم الديني الصحيح'.
ومن الغريب ان كل تلك الهياكل والمؤسسات الدينية لم تأل جهدا في يوم من الأيام في محاربة كل فكرة جديدة ثم ركوب موجتها بعد ذلك وتسخيرها لتحقيق مآربها السياسيةِ فقد حاربت هذه الهياكل والمؤسسات المطابع ثم استعملتها خير استعمال للدعاية لأفكارها، وحاربت البنوك بحجة أنها ربوية، ثم لوت أعناق التشريعات المالية وابتدعت مصارفها الخاصة 'وكوشت' على المليارات، ثم عارضت جميع أنواع التأمين ثم انضمت الى الركب، مسايرة في البداية وقيادة في النهايةِ كما سبق أن حرمت هذه المؤسسات الدينية الكثير من وسائل الاعلام وعادت وطوعتها لخدمتها في نهاية الأمر بعد أن امتلكت الكثير منهاِِ الخ.
نسوق هذه المقدمة المطولة نوعا ما كمدخل لمناقشة موضوع دور رجل الدين في المجتمعات الاسلامية، فمن الواضح جدا ان نسبة العاملين او المنشغلين بالأمور الدينية، في أي دولة اسلامية، وإلى أي مذهب او طائفة انتموا تتجاوز بكثير حاجتها الى تسيير أمورها الدينيةِ وبسبب هذه الكثرة غير العادية فان من الطبيعي ان ينشأ التنافس بينها، سواء فيما يتعلق بالمتطرف من الآراء والمواقف، او في غير ذلكِ كما ان نسبة كبيرة منها تصر على ان تبين سعة علمها وطول باعها ورسوخ قدمها وقوة ظهرها في كل أمر، سواء كان موضوعا يتعلق بالإرث أو الدوائر الانتخابية!
إننا بحاجة حقا الى رجال دين اقل، وقراء أكثر!