وللموضوع بقية (3/1)
'تتعرض اللغة الحية، كما يتعرض الانسان، وبشكل متزايد، الى مختلف الامراض التي تتطلب عمليات نقل دم لها من لغات اخرىِ وعندما تقفل الابواب امام تدفق الكلمات الجديدة تموت اللغة'
(اتشِالِمنكن، اللغة الاميركية - 1919).
* * *
ينطبق هذا على اللغات كافة، والعربية ليست استثناء، وهي لو لم يقيض لها القدر كتابا مقدسا، لكانت مكانتها ووضعها، من ناحية الانتشار والتنوع والغنى مختلفين بشكل جذري ولضاعت مع ما اضعناه على مدى القرون العشرة الاخيرة، او يزيد.
توجد في العالم اكثر من 2700 لغة معروفة ومدونةِ وتعتبر اللغة الانكليزية الاكثر غنى بينها من ناحية المفرداتِ فقاموس 'اكسفورد' مثلا، كان يحتوي عام 1985 على 500 ألف كلمةِ ولك ان تتصور عدد الكلمات الجديدة التي ادخلت على هذه اللغة منذ ذلك التاريخ، وكان آخر تلك المحاولات قبل ايام عندما ادخلت ثلاثة آلاف كلمة جديدة على قاموس اكسفورد للغة الانكليزية الدارجة، أخذت من واقع الحياة، مثل وباء 'سارس' ومن اعمال ادبية وتلفزيونية شهيرة، ومن عالم الموسيقى الشعبية ومن الانترنت والفضاء والطب والكمبيوتر، وهي المجالات التي شملتها تطورات هائلة خلقت عشرات آلاف الكلمات والتعبيرات الجديدةِ ويضاف الى هذه الثروة من الكلمات الانكليزية الاميركية نصف مليون آخر من المصطلحات الفنية والعلمية غير المفهرسةِ ولو قمنا بمقارنة ذلك بلغة دولة عظيمة ومتقدمة، مثل المانيا، لوجدنا ان عدد كلمات لغتها لا تتجاوز المائتي الف كلمة بكثير، ونصف ذلك العدد للغة الفرنسية! اما عدد كلمات اللغة العربية الموجودة في كتب مثل 'لسان العرب المحيط' او 'مختار الصحاح' فلا اعتقد انها تتجاوز الثلاثين الفا بكثير، واشك في وجود من يعرف حقيقة عدد كلمات لغة 'الضاد' لسبب بسيط يعود الى عدم وجود مصدر واحد يمكن الرجوع إليه والخروج برقم يمثل عدد كلمات اللغة العربية، على الرغم من وجود خمسة مجامع للغة العربية في دمشق وعمان والقاهرة والرباط، وحتى في بغداد! وقد تعرض بعض هذه المجامع للكثير من السخرية بسبب المحاولات المضحكة التي لجأت اليها عند تعريب بعض الكلماتِ فكلمة 'ساندويتش' المأخوذة اصلا من اسم اللورد ساندويتش، الذي كان اول من ابتدع هذه الطريقة العملية في تناول الطعام اثناء اللعب او العمل، عربت من قبل مجمع القاهرة كالتالي: 'شاطر ومشطور وما بينهما كامخ او طازج'ِ اما عبارة registered mail فقد عربت في الكويت لتصبح 'بريد مسجل'، اما في العراق فقد اصبحت 'بريد موصى عليه'، وفي دولة عربية ثالثة 'بريد ممتاز'، وفي رابعة 'بريد مضمون'ِِ وهكذا.
* * *
على الرغم من تعدد زياراتي للمراكز التعليمية والثقافية الاجنبية واختلاطي المستمر بالكثير من المستشرقين ومن الاجانب الذين سبق لهم ان امضوا سنوات طويلة في مختلف الدول العربية، لسبب او لآخر، الا انني استطيع القول انني لم اقابل قط من يتقن نطق اللغة العربية من غير العربِ كما لم اقابل حتى هذه اللحظة من العرب من يستطيع الادعاء بمعرفة كافة اسرار اللغة العربية وتعقيداتها، ولا ننسى هنا ما ذكره احد اساطين اللغة، الذي ربما يكون الخليل بن احمد الفراهيدي، والذي قال، وهو على فراش المرض، انه يموت وفي نفسه شيء من 'حتى'!
ولو قلنا إن هناك من يعرف اسرار اللغة ودهاليزها، فان عدد هؤلاء لا يمكن أخذه في الاعتبار لقلته، وبالتالي لا يصبح لهذه النسبة وزن يذكر، وتصبح الحقيقة التي يجب الاعتراف بها ان الغالبية العظمى من المتعلمين، وما اقل نسبتهم، عاجزة عن فهم وادراك قواعد اللغة العربية كما يجب ان تدرك وتفهم، وكل ذلك يعود لصعوبة اللغة وشبه استحالة الالمام التام بقواعد نطقها وكتابتها كافةِ كما اصبح الكثير من الادباء والمبدعين، وفي اكثر من مجال، يتعاملون مع اللغة بالطريقة التي يعتقدون انها صحيحة، والتي قد لا تكون كذلك بنظر بعض اللغويين!
من كل ذلك يتبين بشكل واضح ان هناك حاجة ماسة لتطوير اللغة العربية لتصبح اكثر سهولة، سواء في طريقة التعليم او في طريقة الاستخدام، بحيث تصبح لغة طيعة سهلة، مع عدم الاخلال، في الوقت نفسه، بالقدرة على فهم لغة القرآن وكتب التراث والادبِ وهذا يحتاج بالطبع الى جهد وعلم وخبرة نعلم جيدا أننا من غير الحائزين على اي منهاِ كما انه موضوع شائك ومعقد سبق ان اتعب وأعيا الكثيرين قبلناِ ولكن يجب ان لا يمنعنا هذا من توضيح ما يستحق التوضيح والملاحظة، واقتراح ما يستحق التفكير، خاصة ان الاجتهاد في مثل هذه الامور لم يحرم بعد، وما اكثر المحرمات في مجتمعاتناِ كما اننا لا نتوقع اجرا على اجتهادنا.