العلمانية والنووية الايرانية
أثار القاضي الاميركي روي مور عاصفة من الجدل في مدينة مونتغمري بولاية الباما الاميركية عام 1992عندما قام بوضع لوحة خشبية صغيرة على حائط المحكمة التي يديرها مدون عليها 'الوصايا العشر'، المنقولة من العهد القديم للتوراة، حيث ان اميركا دولة علمانية، تفصل شؤون الدين عن قضايا الدولة، ودور المحكمة هو الفصل بين الناس بالعدل من دون النظر إلى جنسهم او لونهم او دينهم أو مذهبهمِ وقد اثار تصرفه جماعات الدفاع عن الحقوق المدنية، ولكن القاضي أصر على موقفه وطوي الموضوع في حينه.
ما ان تمت ترقية القاضي مور الى عضو في المحكمة العليا للولاية مؤخرا حتى قام بتدوين تلك الوصايا على كتلة ضخمة من الصخر يبلغ وزنها طنين ونصف الطن وقام بوضعها في البهو الرئيسي لمبنى محكمة الولاية.
احتجت جماعات الدفاع عن الحقوق المدنية بشدة على ذلك التصرف المخالف لدستور الدولة، وقاموا برفع الأمر إلى أعلى سلطة قضائية في البلاد التي أمرت حكومة الولاية بازالة قطعة الحجر لمخالفتها مبدأ علمانية الدولة، حيث ان بهو المحكمة مكان عام ولا يجوز ان يكرس لدين ضد آخرِ وعندما سئل الرئيس بوش عن رأيه في الموضوع رفض التعليق أو التدخل في الأمر، وقال إن مسؤولي الولاية أدرى بشؤونها!
ومن جانب آخر، دأب أعضاء في حكومة الجمهورية الاسلامية الايرانية التي يسيطر رجال الدين فيها على مقاليد الأمور ومنذ فترة طويلة، على رفض جميع الاتهامات المتعلقة بنية الحكومة انتاج اسلحة نووية من خلال مفاعلاتها النوويةِ وأصروا على ان هدفهم ينحصر في الحصول على مصدر طاقة رخيص، وزادوا على ذلك رفضهم السماح بتفتيش منشآتهم، والقول إن على العالم تصديق تصريحاتهم.
بعد زيادة الضغوط عليهم لفتح الباب أمام المفتشين الدوليين لحسوا تصريحاتهم السابقة ووافقوا على مبدأ التفتيش ولكن بشروط، ثم عادوا وتنازلوا عن تلك الشروط، من دون ان ينسوا التأكيد على أن ليس لديهم ما يخفوه! وما أن قامت وكالة الطاقة النووية بأولى عملياتها حتى تبين لها وجود مواد مشعة على الكثير من المعدات والآلات في أحد المفاعلات! وهنا صرح رجال الدين بأن تلك المواد المشعة 'ربما' علقت ببعض القطع التي تم استيرادها من روسيا أو باكستان! وأنهم ابرياء من كل التهم المتعلقة بحيازة قنبلة نووية!
مع استمرار عمليات التفتيش تبين لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة وجود نوعين آخرين من اليورانيوم المخصب لا حاجة لوجودهما في مفاعل مخصص لانتاج الكهرباء بالطاقة النووية، مما يعني ان الشكوك الدولية والغربية كانت في محلها، والتصريحات الرسمية الايرانية كانت غير صحيحة بالمطلق، ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، لا تزال السلطات الايرانية تصر على الاستمرار في مسلسل النفي والتبرير.
إننا لا نكتب هنا لكي ندافع عن المواقف الدولية أو الاميركية، ولا نقول ليس من حق هذه الدولة أو ذلك النظام الحصول على الاسلحة النووية، بل لنؤكد أن السياسة، بكل ما تعنيه الكلمة من دهاء ومراوغة، لا تتماشى مع التعاليم الدينية التي يجب ان تتسم بالوضوح والصراحة والصدق، خاصة اذا كان قائلها رجل دين معمما!
لقد رأينا في الحالة الاميركية ان أي محاولة لخلط الدين بشؤون ادارة الدولة قد توقفت بعد ان اثارت فزع المدافعين عن الحقوق المدنيةِ وهذا يعني ان كل من تدفعه الظروف للوقوف أمام قضاء دولة علمانية يشعر باطمئنان اكبر بكثير من ناحية عدالتها مقارنة بمن يقف امام عدالة دولة 'دينية'، خاصة عند اختلاف أديان المواطنين والمقيمين ومذاهبهم.
ورأينا في الحالة الايرانية ان ما صدر عن رجال الدين العاملين في ادارة شؤون الدولة من تناقض في التصريحات وتضارب في المواقف، منذ ان استلموا قيادة تلك الدولة قبل اكثر من عشرين عاما، أدى بصورة لا تقبل الشك الى زعزعة صورتهم في أذهان الخاصة والعامة، كما أدى إلى فقدهم لتلك الهالة التي كانت دوما جزءا من شخصيتهم!
الخلاصة، ان مبدأ الفصل بين الدين والدولة مبدأ عام تعمل به الدول المتقدمة كافة، ولم يثبت يوما ان هذا الفصل أضعف الدين في شيء، وخير دليل على ذلك ما حدث ويحدث في تركيا التي يدير الاسلاميون شؤونها من خلال حكومة منتخبة على الرغم من أن نظام الدولة علماني صرف، ومنذ أكثر من 70 عاما.