الطبع والتطبع
لم يصدق احمد ما كانت تراه عيناه من كلمات وهو يقرأ حروف البرقية الباهتة والمكتوبة بلغة انكليزية ركيكة على ورق بال ورخيص، والتي وصلته من قريب له في الكويت، تطلب منه العودة إلى وطنه لينال حصته من الميراث الكبير الذي تركه له جده، فقد كانت نفسيته واحواله المادية في الحضيض، فأحلام الثراء التي كان ينشدها عندما ذهب الى الهند في نهاية العشرينات من القرن الماضي لم تكن بتلك السهولة، فالمنافسة مع ملايين البشر هناك، الذين يدبون على طرقاتها وفي اسواقها طوال ساعات الليل والنهار دون توقف لم تكن بالمسألة السهلة.
بعد رحلة شاقة، وتوقف متكرر في اكثر من ميناء بحري، وصل احمد الى وطنه بعد غياب عشرين عاما، وهو اكبر عمرا واكثر فقرا وتعبا مما تركهاِ ما ان علم، في اليوم التالي، بحجم الثروة التي خلفها له جده حتى كاد يغمى عليه، فقد كانت تتجاوز احلامه وامانيه بكثير.
بسبب حرص احمد الشديد على المال، وجهله بطرق ومجالات استثماره في وطنه الذي غاب عنه كل هذه الفترة الطويلة، ، وبناء على توصية خاله البحار الخبير، ومدفوعا بحكايات الثراء الغريبة التي كان يسمعها في حانة الحي الذي كان يسكنه في بومبي، والقريب من سوق الاوراق المالية، وعن الصفقات التي كان المتعاملون في الاسهم والسندات يحققونها كل يوم، وما كان يصاحب كل ذلك من قصص نجاح وثراء سريع، حيث لم يكن احد يهتم، كعادة البشر، لسماع قصص الخسارة والفشل، فقد تقرر المشاركة في رأسمال اول بنك كويتي، واول شركة مساهمة يتم تأسيسها في الكويت.
بالرغم من ان اموال احمد المستثمرة في اسهم البنك لم تنم كثيرا في السنة الاولى، الا ان نفرا من الناس لم يكف عن الاتصال به وتقديم مختلف العروض لشراء حصته في اسهم البنك، سواء مقابل اموال نقدية او املاك عقارية، لكنه، وبسبب نسبة الذكاء المالي التي كان يمتاز بها، مقارنة بأقرانه، وامله في تحقيق ارباح عالية جعلاه يتشبث اكثر بملكيته في اسهم البنك الوليدِ بعد مرور اربع سنوات على انشاء بنك الكويت الوطني، اصبحت قيمة استثماره في اسهمه تساوي ثمن بيت متوسط الحجم في منطقة راقية، وهو امر كان في امس الحاجة إليه بسبب قراره الزواج من قريبة له، ولكن آماله في ان ترتفع اسهم البنك بشكل اكبر، وتعوده على خشونة الحياة وشظفها، اللذين اصبحا جزءا منه منذ ان كان في الهند، جعلاه يتردد كثيرا في ترك الحجرة الصغيرة، ذات الايجار المتواضع جدا، التي كان يعيش فيهاِ ولكن الزوجة الجديدة ابت الاقامة فيها واصرت على الانتقال إلى بيت تمتلكه، كما وعدها، وكما كانت تأمل، ولكنها رضيت في نهاية الامر، بناء على الحاحه ووعوده العذبة بمستقبل 'مشرق مجيد'، على السكن في الطابق العلوي من بيت يقع في منطقة الدسمة املا في ان تتمكن يوما ما من اقناعه ببيع جزء من اسهمه وشراء بيت كبير لهما.
ولكن السنوات مرت ولم يلن تشبث احمد بأسهمه، خاصة ان استمرار الارتفاع في قيمتها السوقية لم يتوقف الا كي يعود إلى مجراه السابقِ وهكذا بدأ حلم الزوجة في حياة رغدة يخبو تدريجيا، وهو الحلم الوحيد الذي عاشت من اجله بعد ان قرر القدر حرمانها من نعمة وبلاء الذرية، وقررت، بعد ان فاض بها الكيل، هجره بسبب استمرار بخله وعجزها التام عن تغيير نمط حياتهِ ووقع الفراق في اليوم نفسه الذي بلغت فيه القيمة السوقية لاسهم احمد نصف مليون دينار تقريبا، والذي تصادف مع افتتاح اول سوق لتداول الاوراق المالية في الكويت.
ما ان مرت سنوات قلائل حتى ادرك احمد، للمرة الالف، كم كان محقا عندما قرر، وهو الذي لم ينل حظه كاملا من التعليم، المخاطرة بجزء كبير من الثروة التي ورثها في اسهم شركة مساهمة لم يكن يعرف عنها وعن مصيرها الشيء الكثير.
واصبحت حياة احمد خاوية اكثر بعد قرار زوجته هجره، وقراره الزواج من اسهمه، التي اصبحت ارقامها محور حياتهِ كما اصبحت الساعات القليلة التي كان يمضيها في اروقة البورصة، وبين مكاتب السماسرة التي تختلط فيها صيحات المتداولين بصراخ موظفي المكاتب وهم يبرمون الصفقات، هي لحظات سعادته الوحيدة، كما اصبحت مراقبة شاشة عرض اسعار الاسهم بأرقامها المتحركة اثناء ارتشافه فناجين القهوة والشاي المجانية في اجواء مبردة مركزيا فترات الراحة الحقيقية في حياته، والتي طالما خففت عنه ما كان يعانيه من حر في بيته الذي لم يكن فيه غير آلة تكييف يتيمة في صالته الوحيدة التي كان يقضي فيها جل وقته وهو يقوم باجراء العملية الحسابية نفسها، وتكرارها اكثر من مرة على آلة حاسبة صغيرة جدا كان يحتفظ بها بعناية فائقة في زاوية من الغرفة، بالرغم من ان ثمنها لم يكن يزيد عن الدينار بكثير، حيث كان يتابع على شاشتها الصغيرة ارقامها الخضراء تتلألأ امام عينيه وهي تبين له حجم ثروته في نهاية كل يوم عمل.
وقوع الغزو العراقي على وطنه افقده كل ما يملك، وقضى في لحظة على سعادته وآماله واحلامه، وكاد يفقده عقله لولا عودة الزوجة الناشز للعيش معه، بعد ان غير الغزو نفسيات الكثيرين، ومنها نفسية احمد الذي اقسم امام الجميع انه سيتغير وانه اكتشف ان الدنيا فانية، وعليه سيقوم، فور تحرر الكويت، ببيع كافة حصته في اسهم البنك والتمتع بما تبقى من سني حياته مع زوجته الوفية.
على الرغم من قسوة اشهر الغزو، الا انها لم تطل كثيرا، حيث تحررت الكويت بعدها بسبعة اشهر، وعادت الحال بأحمد الى وضعه السابق، وتغلب الطبع، بطبيعة الحال، على التطبعِ ولم يفاجأ احد، بمن فيهم زوجته، بتوالي اعذاره بعدم بيع، ولو جزء قليل من اسهمهِ والتعلل بالقول بان ما عليهم الا الصبر قليلا لكي تعود الاوضاع الاقتصادية الى حالتها الطبيعية ويتحسن سعر السهم وبعدها سيقوم ببيع كل شيءِ ولكن الايام والاسابيع والاشهر مرت بطيئة مملة، وما طرأ من تحسن تدريجي على اسعار الاسهم عموما وعلى اسهمه بالذات لم تجعله الا اكثر ميلا للتشبث بها، والتي اصبحت قيمتها الآن تساوي الملايين.
اصيب احمد في بداية العام الجديد بالتهاب رئوي حاد، ولم يمهله المرض طويلا، بسبب ضعف المناعة لديه من جهة ولعدم وجود من يقوم بالعناية به من جهة اخرى، بعد ان هجرته زوجته للمرة الثانية.
ومات احمد في فراشه عن عمر يناهز الخامسة والثمانين، لم يقض منها يوما واحدا في اعمال البر والتقوى المعتادة، ولم يعلم احد بموته الا بعد اربعة ايام بعد ان قام جاره اليمني الذي كان يشغل الطابق الارضي من ذلك البيت القديم في الدسمة، باعلام مخفر شرطة المنطقة بشكه في حدوث مكروه لجارهِ وعندما دفن احمد في مقبرة الصليبخات عصر ذلك اليوم كانت قيمة اسهمه قد تجاوزت المليوني دينار، او ما يعادل ستة ملايين وستمائة الف دولار اميركي، اضافة الى رصيد حساب ادخار يتجاوز المائة الف دولار.