المشكلة في التفاصيل

في تعليق له على الندوات والمحاضرات والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك في موضوع حوار الحضارات، والتي يكون أحد أطرافها الجانب الإسلامي، وفي الطرف الآخر بقية الأديان والأنظمة والمعتقدات الأخرى، كتب أحد الزملاء مقالا قبل فترة قال فيه ان اختلاف الاسلام أو المسلمين مع العلمانيين والمسيحيين واليهود والبوذيين والشيوعيين والاشتراكيين وغيرهم، ليس اختلافا في مجال الهندسة أو الطب أو الزراعة وبقية العلوم الدنيوية الأخرى، والتي من الممكن المجادلة والمناقشة فيها، بل هو اختلاف عميق لا مجال فيه للتكامل والتنازل المتبادل، لأنه حسب قوله صراع بين الحق والباطل!.
وهذا يعني برأيه، وبرأي الآلاف من أمثاله، حوارا غير مجد وعقيما، ولن يصل بنا الى أي نتيجة، لأننا كمسلمين على حق وبقية مليارات البشر الخمسة الأخرى، ولأي عقيدة أو اعتقاد انتموا، على باطل، وهم من الخاسرين.
ولكن الزميل يعود في فقرة أخرى ويقول ان الحوار بين الحضارات يجب ان يرتكز على الأسس العقائدية للاسلام والرأسمالية والشيوعيةِِ الخ، وما هي ادلتها، مع عدم التطرق إلى التفاصيل والفروع لأنها محدودة الفائدة وتصب في بند الثقافة لا في بند العلم!.

إن المشكلة مع الكثيرين منا تكمن دائما في عدم اهتمامنا بالتفاصيل، وفي أي فرع من فروع العلم والثقافة والأدب، وفي أي تصرف أو تفاوض أو نقاشِ وربما يكمن سبب تخلفنا المستمر وضياعنا الذي طال كثيرا، في جزء منه، في عدم اهتمامنا بالتفاصيل، فصدورنا ضيقة دائما وبالنا شارد أبدا، وقدرتنا، بشكل عام، على الإطالة في النقاش والتفاوض محدودة، وهذا يدفعنا دائما، كشرقيين بصفة عامة، وكمسلمين بصفة خاصة، الى الميل الشديد لانهاء الأمور بأسرع وقت وأقل جهد، بحيث أصبحت قلة الصبر من سماتنا العامةِ فنحن على استعداد للدخول في أعقد اتفاقيات الوحدة السياسية أو الاندماجية الكاملة خلال ساعات، ونقض تلك الوحدة بعدها بأسابيع أو سنوات قليلة، لا لشيء إلا لعدم اهتمامنا، وربما لاحتقارنا للتفاصيل، التي يقال ان الشيطان يكمن فيهاِ كما أثبتت الأحداث ان نفسنا التفاوضي وقدرتنا على الدخول في التفاصيل، وفي كافة المفاوضات والمناقشات التي دخلناها كعرب أو كمسلمين في العصر الحديث على الأقل، كانا دائما في حدهما الأدنى، وكنا دائما وأبدا نهرب من التفاصيل ونكره مناقشتها، كما كنا، ولا نزال، نتهم الاسرائيليين بعرقلة الوصول الى أي اتفاق سلام شامل أو جزئي يتعلق بتقسيم المناطق او استغلال الاراضي والطرق، بحجة انهم يغرقوننا في كم هائل وكبير من الاسئلة، ويهتمون بصورة مبالغة بكل صغيرة وكبيرة!!
ان السوق الاوروبية المشتركة وما انتهت اليه من اتحاد اوروبي قريب من الكمال، لم يخرجا الى الوجود لا لأن المستشار الالماني السابق 'اديناور' احب الرئىس الفرنسي 'ديغول' واستظرف معشر رئىس الوزراء الانكليزي 'هيث'، بل لأن امر الاتحاد وضع في ايدي مختصين ذوي دم بارد وجلد وصبر على المفاوضة، واصحاب قدرة عالية على مناقشة كل نقطة وبند والوقوف عند كل امر مطولاِ وهذه المناقشات التي نالت من صبر الكثيرين منا، هي التي تمثل اليوم العماد الذي يقف عليه أصلب اتحاد عرفه التاريخ الانساني!.
هل يود الزميل ان نذكره بمصير الوحدة المغاربية، بليبيا مرات وبغيرها مرات اكثر، وبالوحدة الهاشمية بين عرشي الاردن والعراق، والوحدة السورية ـ المصرية التي سبقتها والتي انضمت اليها اليمن بعدها وما تبع ذلك من وحدة مصرية ـ عراقية ـ سورية، وسورية ـ عراقية في عهد البكر والاسد، واصرار الجماهير 'الوحدوية' على حمل الكرسي الذي جلس عليه الرئىس اثناء توقيع اتفاقية الوحدة مع العراق والسير به في الشوارع ابتهاجا بالمناسبة، التي لم تستمر شهرا كاملا؟ ام يود منا ان نذكره بمختلف محاولات الرئيس الليبي للوحدة مع اي طرف كان، وخلال ساعات، سواء كان الطرف الاخر دولة اوروبية كمالطة او عربية كالسودان او افريقية كتشاد؟!

الارشيف

Back to Top