هل تكون البداية من السودان؟
قام الرئيس السوداني السابق جعفر النميري، في عام 1983 باصدار قرار مستعجل ومتسلط فرض فيه عقوبات 'مختارة' من الشريعة الاسلامية على الشعب السوداني بشقيه المسلم الشمالي والجنوبي المسيحي والمتعدد الاثنياتِ وقامت القوات الحكومية فور تطبيق القرار بالتخلص من المشروبات الروحية بطريقة استعراضية اتسمت بالكثير من السذاجةِ كما تم في الايام التالية تنفيذ مجموعة من الأحكام 'الشرعية' بحق عدد من الفقراء والمشردين، حيث قطعت أيديهم وأرجل البعض منهم بحجة قيامهم بالسرقة، او بتكرارها كما تم رجم مجموعة أخرى من المعدمين بتهم تتعلق بالزنى وغير ذلك من المخالفات.
رفض شعب الجنوب، المسيحي في غالبيته، تلك القرارات وطالب بايقاف تطبيق أحكام الشريعة المختارة على غير المسلمين على الاقل، ولكن الرئيس النميري، الذي اتصف حكمه بسوء مطلق، رفض التنازل عن قراراته وأصر على تطبيقها.
وهنا لم يجد شعب جنوب السودان بدا من المقاومة، حيث قام العقيد جون غارانغ الحائز على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة 'أيوا' الاميركية، بتأسيس الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي بدأ حركة المقاومة عام 1983.
لم يستمر النميري في الحكم طويلا وطرد من السودان بعد فترة، ولكن بعد ان افسد البلاد وأفلس الاقتصاد، ولكن لم تقم أي من الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان من بعده على الغاء تلك القوانين الجائرة، مما جعل المقاومة الجنوبية تستمر عشرين عاما فقد السودان خلالها اكثر من مليون ضحية أغلبهم من الابرياء واحترقت مدن بكاملها، واصبح السودان على رأس قائمة اكثر الدول فقرا في العالم، واصابت المجاعة والأوبئة القاتلة شعبه اكثر من مرة، ولولا المساعدات التي انهمرت على حكومته المسلمة من الدول المسيحية الغنية لتضاعف عدد ضحاياه.
بعد عشرين عاما، وبعد خراب أم درمان وبحر الغزال والخرطوم وبور سودان وعطبرة والجبل الابيض وواد مداني وبحر الجبل والحسيحسة، اكتشفت الحكومة السودانية ان مقاومة المقاومة عبث، وسوف لن تصل الحكومة السودانية في ظل حالة الافلاس الفكري والمالي التي تعيشها الى أي نصر على الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأن من الأفضل الجلوس معها والتفاوض على شروط الصلح.
وهكذا قام الرئيس السوداني البشير، وفي حركة تتسم بالكثير من العقلانية والشجاعة، وبعد ان خلص السودان الى الابد من شر شريكه السابق حسن الترابي، بالالتقاء بغريمه جون غارانغ في كمبالا وتصافح معه على طاولة المفاوضات.
ما كان لهذه الحرب العبثية ان تتوقف لو لم تتخذ الحكومة السودانية قرارها الصائب والقاضي بالموافقة على اعتماد دستور علماني للسودان بأكمله، فهل تكون السودان الرائدة وفي المقدمة بعد ان كانت التابعة وفي المؤخرة طوال العقدين الأخيرين، على الأقل؟.