من منا يمتلك مثل هذا الخلق؟
ستمر علينا بعد ايام قليلة الذكرى العاشرة لغزو سخيف وفاشل وحقير وغير مبرر، ويمكن اعتباره مثلا صارخا على ما وصلت له اوضاع امة بكاملها من تخلف وتشرذم وبؤس.
لطرد ما قد يراود النفس من افكار سوداء، وما قد يطرأ على البال من ذكريات حزينة في مثل هذه المناسبة العليلة نورد القصة الحقيقية التالية التي كنت طرفا اساسيا فيها:
كان (سِ سِ ر)، والى ما قبل الغزو العراقي للبلاد، من اكبر المتعاملين في تجارة الملابس الرجالية الجاهزةِ وكان يمتلك في وقت ما اكثر من 20 محلا للبيع جملة وتجزئةِ ما ان وقع الغزو حتى ترك صاحبنا واسرته البلاد عن طريق البر عائدا الى جبال وطنه، وترك ابنه البكر وراءه ليقوم بتصفية محلات الشركة وما كان فيها من بضائع.
استطاع هذا الابن وخلال فترة بسيطة من بيع كمية كبيرة مما كان في المخازن من ملابس جاهزة وباسعار تقل عن تكلفتها الحقيقية، ولكنه احتار في الطريقة التي كان يجب ان يتصرف فيها في ما تجمع لديه من حاصل البيعِ وعندما استشار احد اشقائي في الامر نصحه هذا بتقسيم المبلغ الى قسمين وتسليمهما الى شابين كانا يعملان في انشطة المقاومة.
ما ان تحررت البلاد حتى كنت من اوائل العائدين لها على ظهر شاحنة ضخمة محملة ببعض المواد 'الاستراتيجية' التي كان من يمتلكها يمتلك الحق في العودة للكويت قبل الآخرين، وكان ذلك مع نهاية الشهر الثالث من عام 19 (!).
توجهت في صباح اليوم التالي لوصولي، وكان الدخان الاسود اللعين لا يزال يلف البلاد من اقصاها الى اقصاها، وبناء على طلب صديقي رجل الأعمال العربي (سِ سِ ر)، توجهت الى منزل اسرة احد الشابين اللذين وضعت الأمانات النقدية لديهماِ وعندما حضر اكتشفت انه كان شابا لم يكن يتجاوز العشرين من العمر بكثيرِ عرفته بنفسي وطالبته بالأمانة والتي وضعت لديه عندما كان وطنه محتلا قبل سبعة أشهر وعندما لم يكن احد يعرف مصير احد او يعلم علم اليقين ما ستؤول اليه الامور في بلد فقد كل مقومات وجوده المادية ولم يكن يحكم الوضع فيه غير قانون الغاب، وكان كل تصرف، مهما بلغ تطرفه، يتعلق بالخيانة او الامانة او الشرف او الخلق مبررا بسبب سوء الاوضاع الامنية والخلقية والمعيشية، وبسبب الحقيقة التي كانت معروفة للجميع بان مصير وجود اي مواطن او مقيم لم يكن يساوي اكثر من قيمة القميص او الدشداشة التي كانت تستر جسده.
استأذنني الشاب بلطف وعاد الى داخل البيت بعد لحظات عاد وهو يحمل بيديه 'رفشا' كبيرا يستعمل لإزالة الأتربة، وانتابني الخوف للحظة، في ظل تلك الاوضاع الامنية السائبة التي كانت البلاد ترزح تحتها بعد التحرير مباشرة، حيث اعتقدت بانه سيهجم علي بذلك الرفش ويهشم رأسي ويستولي على ما كان بحوزتي من مقتنيات ومن ضمنها ذلك الايصال البدائي البسيط الذي كان يحمل توقيعه والذي قام بتوقيعه قبل ما يقارب السبعة أشهر، ولكنني فوجئت به يتجه صوب ركن من أركان حديقة منزل اسرته الجرداء ويبدأ في الحفر بهمة عجيبة، وبعد لحظات ظهرت ملامح حقيبة جلدية غالية الثمن فقام بإزالة ما علق بها من أتربة وسلمني اياها، وما ان فتحتها حتى شاهدت ربطات من الاموال النقدية مكدسة فيهاِ ولم احاول بطبيعة الحال ان اقوم بعدها بالتأكد من المبلغ بالرغم من اصراره الشديد على ذلك ولكني رفضت الامر وشكرته بكلمات مقتضبة على امانته ونخوته الغريبة وغير المتوقعة من شاب في عمره وفي ظروف لو كانت مرت على ايد بلد آخر لقلبت نفوس الجميع الى شيء آخر.
سلمت الحقيبة بما كان فيها من اموال الى موظف احد البنوك المحلية وطالبته بإيداع قيمتها في حساب صديقنا (سِ سِ ر)، وعندما سألني عن مقدار ما كانت تحتويه تلك الحقيبة الجلدية من مال انكرت معرفتي بالمبلغ الصحيح، وما ان انتهى من عده كاملا حتى قال انه 115 ألف دينار بالضبط (400 ألف دولار تقريبا) فنظرت الى ورقة كانت بيدي وكان مدون عليها المبلغ الذي تم تسليمه لذلك الشاب كأمانة في بلد لم يكن يحكمه قانون او عرف او خلق فتبين لي بانه مطابق 100%.
فشكرا لصلاح عبدالله الدشتي للمرة الألف على تلك الامانة النادرة والخلق القويم! اما قصة الشاب الآخر الذي وضعت الامانة الثانية لديه فقصة أخرى سنوردها في مقال آخر!
أحمد الصراف