الصعق الكهربائي
'ِِ عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر كان والدي يبدو لي شخصا جاهلا، الى درجة كان يصعب علي تصور وجوده من حولي، ولكن عندما بلغت الحادية والعشرين صعقت من كمية ما حصل عليه من علم ومعلومات في سبع سنوات فقط'.
(الكاتب الاميركي مارك توين)
* * *
كتب احد الزملاء يقول ان الانسان في المجتمع الغربي يعيش حالة قتل جماعية، وإن هناك مسلسل اجرام مستمرا، وهناك امنا مفقودا وفتيات مشردات يقفن في 'الداون تاون' لكل عابر سبيل، وان هناك اسرا مصطنعة وآباء وامهات سكارى، وان الانسان هناك بائس وخائف وممزق الوجدان يعيش فراغا هائلا في شبابه، وعبودية في حياته المهنية ِِ الى آخر ما تضمنه قاموسه من شتائم وأوصاف يندى لها الجبين.
وحيث ان اية سفارة غربية سوف لن ترد على مثل هذا المنطق، وحيث ان السكوت عنه قد يوهم البعض ان ما قيل وكتب صحيح ودقيق، فقد قررنا بالتالي الرد عليه من واقع تجربتنا الشخصية، ولتصحيح ما قد يعلق ببعض الاذهان ليس الا:
اولا ـ من المعيب في حقنا، قبل ان يكون في حقهم، ان نطلق على المجتمع الاميركي كل هذا الكم الهائل من الاوصاف البذيئة، في الوقت الذي نبذل فيه الغالي والرخيص للحصول علي اي شيء يقوم شعب ذلك المجتمع بانتاجه، سواء كان جيدا ام تافها، ماديا او معنويا.
فاذا كان هذا حالنا معهم وهم على ما هم عليه من ترد وضياع وتشرد وتشرذم وانحلال، فماذا سيكون عليه وضعنا لو كانوا على غير تلك الحالة 'المزرية'؟.
ثانيا ـ ذكر الزميل بانه اغترب يوما في اميركا، ونحن نسأله لماذا حرص، ويحرص غيره من الحليقين والملتحين بالذات، على 'الاغتراب' هناك؟؟الم يكن همهم في الدرجة الاولى الاستزادة من علم وثقافة تلك الشعوب؟ فاذا كان الامر كذلك فكيف قبل لنفسه ان يعترف بانهم اكثر علما وفهما وثقافة منا ويصر في الوقت نفسه على ان يطلق عليهم كل تلك الاوصاف البذيئة؟ وكيف قبل لنفسه الاستزادة من علم اناس وصفهم في مقاله بالمجرمين المنحلين خلقيا والقتلة المنتمين لاسر متفسخة، ولا هم لفتياتهم الا الوقوف في مراكز المدن بملابس مزركشة لمنح اي عابر سبيل ما يريد لقاء دولارات قليلة، على حد قوله؟!.
ثالثا ـ نحب ان ندعي دائما بان مجتمعاتنا فاضلة بعكس المجتمعات الغربية والاميركية 'المنحلة'، ولا ادري من اين استقينا معلوماتنا هذه، والتي قد تكون صحيحة في نهاية الامرِ ولكن من التجني، وربما من السخف ان نجزم بهذا الامر من غير حرية اعلامية منتشرة وارقام احصائية دقيقة تدل على حقيقة الوضع الامني في اية دولةِ ففي غياب مثل هذه المعلومات لايمكن الادعاء بان هذا البلد احسن من تلك الدولة، او ان العيش هنا اكثر امنا من هناك.
رابعا ـ يجب ان نكون حذرين جدا عندما نقوم بالمقارنة بين ما يجري في المجتمعات الغربية 'المنحلة والفاسدة الي يسكر فيها الاب والام بحيث يسهيان عن ابنائهما' وبين مجتمعاتنا!ِ من المهم ان نحدد نوعية المجتمع الذي نقوم بمقارنته بالمجتمع الاميركي، فلا يفيد ان نصف المجتمع الاميركي بالفساد والاجرام ونسكت، حيث ان الامر يتطلب وجود اداة قياس او مفهوم ما للمجتمع المجرم قاسي القلب نستطيع على اساسه القيام بعملية المقارنة.
وفي ظل غياب اداة المقارنة او القياس فان اي كلام عن انحلال مجتمعاتهم وفضيلة مجتمعاتنا كلام فارغ لا يعني الكثير، ولا ادري ان كان الكاتب يقارن الوضع الامني والاخلاقي للاميركيين بالشعوب العربية، ام بالشعوب الاسلامية في آسيا أم الاسلامية في افريقيا، ام هو يتكلم عن شعوب الشرق الاوسط عموما، ام اننا نقارن بين الوضع الاخلاقي في الكويت بمليونيها وتراثها الواسع نسبيا وبين مئات الملايين من سكان اميركا واوروبا وتفاوت ثروات مواطنيها!.
خامسا ـ لماذا تستميت نسب هائلة من شعوب آسيا وافريقيا، والاسلامية منها بالذات، واميركا اللاتينية للهجرة الى اوروبا الغربية والولايات المتحدة الاميركية؟؟، هل بسبب توفر فرص العمل في تلك البلاد او لجمع المال فقط؟، ولماذا تصر الغالبية على البقاء هناك بعد تحقيق الثروة والنجاح وترفض العودة لجنة الزميل، خاصة انهم قد رأوا، على حد قول الزميل، القتل الجماعي في كل محل عام وشاهدوا العاهرات في كافة الطرقات؟، الا يعني ذلك ان في الامر شيئا اكثر من المال والاستقرار وفرص العمل!، شيئا ما يتعلق بصميم كينونة الانسان يسمى بالحرية والكرامة الانسانية وبقية الحقوق الاخرى المرتبطة بها؟
سادسا ـ لا نريد ان نتكلم عن السجون، والتي اصبح عددها في بلادنا اكثر من الفنادق، ولا نريد ان نتكلم عن المعتقلات والتي اصبحت اسماؤها اشهر من اسماء ممثلات السينما، ولا نريد ان نتطرق الى كل ذلك العدد الهائل من الابرياء و'الاشقياء' الذين فقدوا اما قطعا كاملة من اجسادهم او حرياتهم الى الابد، او المحظوظون منهم الذين فقدوا حياتهم وارتاحوا الى الابد بعد ان تعرضوا للتعذيب او الاغتيال او الموت في حروب تافهة او انقلابات عشوائية، ولا نريد ان نتكلم عمن ملأت اسماؤهم نشرات حالة حقوق الانسان في العالم، واسماء اولئك الذين تعرضوا لجدع انوفهم وحرق اجسادهم بأعقاب السجائر وتعريضهم لمختلف انواع الصعق الكهربائي وضربهم وتعذيبهم بمختلف الادوات، وخلع اظافرهم واغتصاب اهاليهم امام اعينهم من دون احترام او رحمة او شفقةِ ولا نريد ان نتكلم عن حالات انتهاك حقوق الانسان التي يتعرض لها الملايين في العديد من دولنا العربية والاسلامية ودول عديدة اخرى، ولا عن حالات القهر والالم والاحباط والدموع التي تذرف في كل بيت وفي كل اسرة، فالقائمة طويلة والاسى مستمر والليل طويل وشمس المعرفة والحرية ترفض ان تشرق على العديد من دولناِ وبعد كل ذلك لا يستحي احدهم من ان يصرح كتابة : ب'ان وضع حقوق الانسان في الدول العربية بائس ولكن وضع حقوق الانسان في المجتمعات الغربية اشد بؤسا' (!).
ان ما نحتاج إليه حقا هو تعريض بعض العقول للصعق الكهربائي لكي تفيق من عميق سباتها وتكتشف الحقيقة المرة التي نعيش فيها.
اننا لا ندعي، ولو للحظة، ان اميركا جنة الله على الارضِ ولا نقول ان دول اوروبا الغربية هي ملاذ الانسان الاخير، وقد جربت العيش في كلتا المنطقتين ولفترات طويلة، وربما اعود يوما لاعيش في احدى دولهما مرة اخرى، ولكن بالرغم من كل ذلك فان من العيب ان نذكر كل تلك الاقاويل المبالغ فيها على صفحات الصحف والمجلات وننشرها على المنابر لكي نوهم الغفلة بها ونحن اعلم من غيرنا بأن ما نقوله غير دقيق، لكي لا نستعمل تعبيرا اكثر قسوة.
أحمد الصراف