وعاظ السلطة

شاركت في دورة دراسية ومصرفية عام 87 بمدينة فيلادلفيا الاميركية، اقامتها جامعة بنسلفانيا بالمشاركة مع مدرسة وارتون للاعمالِ وكان من ضمن المشاركين اثنان من كبار مديري المصارف في احدى الدول العربية.
توطدت الصداقة بيني وبينهما وكنت وزوجتي كثيرا ما نأتمنهما على ابنتنا الرضيعة عندما كنا نود قضاء السهرة خارج الفندق حيث كنا نقيم جميعا.
في جلسة حميمة تبادلنا فيها العديد من المعلومات عن بلدينا، تبين من خلال الحديث انهما ينتميان بصلة قرابة لبعضهما، ولمسؤول كبير في تلك الدولة.
ومن اطرف ما ذكراه في تلك الجلسة ان الحاكم، قرر في يوم ما ان كل ما انتجه الفكر الانساني من شعر وفلسفة وقصص وأدب مكتوب او اي مادة تم وضعها بين دفتي كتاب مطبوع هو نوع من الانحراف الذي يستحق التخلص منه بالحرق (!!).
وصدرت التعليمات للشعب بالتخلص من كل موبقات الحضارة الانسانية من كتب ونشرات ودراسات وأبحاث وحرقها بصورة علنية امام منزل صاحبهاِ واعلن ان لجانا منبثقة عن 'المؤتمرات الشعبية' التي تم تشكيلها بصورة عاجلة ستقوم بالمرور على الاحياء والمدن والشوارع والأزقة لتفقد أكوام الركام التي نتجت عن حرق 'الوساخات' التي افرزتها ادمغة مئات آلاف المبدعين من فلاسفة وقصاصين وشعراء وأدباء في كافة دول العالم، ومنح جوائز وشهادات تقدير لصاحب اكبر كومة رماد ناتجة عن حرق تلك الكتب! وتفتيش كل بيت، ومعاقبة كل من لا توجد كومة رماد ناتجة عن حرق كتب امام باب داره او اذا كانت الكومة صغيرة بشكل مثير للشك.
واضافا انهما، وتنفيذا لتعليمات الحاكم، قاما بحرق كامل محتويات مكتبتيهما اللتين كانتا تحتويان على ما يزيد عن ألف وثلاثمائة نسخة من أثمن الكتب وأحسنهاِ وحصل كل منهما على شهادة تقدير مكتوبة بخط يد رئيس لجنة التفتيش (!!) وكان الخط السيئ والرديء الذي كتبت به هاتان الشهادتان لا يعني شيئا بجانب ما احتوتاه من اخطاء املائية ونحوية عديدة مضحكة.
وتوقعا يومها ان تدخل دولتهما في مرحلة 'كالحة السواد' من تاريخها المظلم اصلا منذ ان تسلم العسكر الحكم فيها قبل اكثر من 30 عاما.
والنتيجة ان هذه الدولة، بخلاف كافة الدول العربية والافريقية الاخرى، هي الوحيدة، ومنذ اكثر من 30 عاما، التي لم تنتج شيئا يمكن التحدث عنه هنا في اي من مجالات الفكر والادب والثقافة والفنونِ وهذا لم يحدث عبثا ومصادفة (!!).
* * *
تذكرت تلك القصة وانا اشاهد ما يتعرض له الفن والفكر والادب من ضغوط ومحاربة وحصر وتجميد من قبل مجموعة جاهلة حاقدة، لا تعرف من الدنيا الا جانبها الاسود، ومن الحياة الا البائس والحزين فيها، ومن البشر الا المنحرف والشاذ والكافرِ وتحاول من خلال مختلف الوسائل المشروعة، واحيانا غير الاخلاقية، الضغط لتعميم ونشر وفرض افكارها السوداء والعودة بالكويت الى القرون الوسطى.
نعود ونقول: ان 'الشرهة' او العتاب يجب ان لا يوجه لهم، ولكن 'الشرهة' او اللوم الشديد يجب ان يوجها الى من سمع لهم واعانهم وشد من ازرهم وقواهم، ووضع مختلف وسائل الاعلام تحت امرتهم لينشروا من خلالها سواد افكارهم وسقيم آرائهم ومطالبهم!.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top