عظمة الهند
'على الرغم من أن الاشجار ترتفع عادة الى أعلى، الا أن أوراقها تسقط دائما الى الاسفل، حيث تكمن الجذور!!'ِ (مثل ماليزي)
* * *
كانت الهند، حتى وقت ليس بالبعيد، من أكثر دول العالم فقرا وتخلفا من الناحية الزراعية والاقتصادية والصناعية وكانت تفتقر لكل شيء تقريباِ وما ان نالت استقلالها بعد حكم بريطاني طويل حتى دخلت في عدة حروب أهلية نتج منها انفصال أجزاء كبيرة عنهاِ كما يمتلئ تاريخها بالعديد من المآسي والكوارث الطبيعية والحروب الأهلية والصراعات الأثنية والعرقية.
ارتفع عدد سكان الهند من 550 مليونا عام 1971 (انسكلوبيديا بريتانيكا 1974) والى ما يقارب البليون نسمة، ويعيش هؤلاء في أكثر من 150 مدينة كبيرة و 626 ألف قرية صغيرة تصل الطرق والكهرباء لغالبيتها.
يتفاهم سكان الهند في ما بينهم بأكثر من 225 لغة رئيسية ولكن الحكومة المركزية لا تعترف الا بخمس عشرة منها، ليس الانكليزية من بينها بحكم الدستور!! ولكن دعت ظروف معينة الى ان تصبح الانكليزية لغة رئيسية رسمية بحكم الواقع بجانب اللغة الهنديةِ والطريف أن الدستور الهندي نص كذلك على أن 'الارقام العربية'، التي نصر على تسميتها بالأرقام الانكليزية، هي الارقام الرسمية للدولة، ولا نزال نحن اصحاب تلك الارقام، ورغم من قرارات الجامعة العربية، نعتمد الارقام الهندية، ذات النقائص العديدة، كأرقام رسمية للدولة ومواطنيها!!!.
يدين غالبية سكان الهند بالهندوسية، التي تعتبر من أقدم الديانات في العالم حيث يعود تاريخها من 2000 الى 1500 سنة قبل الميلاد، كما يدين البقية باليانية والبوذية والسيخية والإسلام والمسيحية واليهودية والزرادشتية اضافة الى مئات اخرى من الدياناتِ رغم كل هذا التنوع الديني والموزاييك البشري الديموغرافي، ورغم كل ما مرت به الهند من كوارث طبيعية وحروب أهلية دينية وعرقية ورغم تمكن العشرات من القادة الغزاة وحكومات الدول الاخرى من احتلال الهند وحكمها وسلب ثرواتها، الا أنها تعتبر اليوم ورغم كل ذلك من الدول التي تتمتع باقتصاد قوي وسليم، وربما تعتبر الدولة الوحيدة في العالم التي تنتج وتصنع وتزرع كل ما تحتاجه، وتقوم بتصدير ملايين السلع والبضائع ومختلف أنواع المأكولات والأنسجة ولا تحتاج الى استيراد الا القليل جدا من السلع القليلة الكماليةِ كما يتمتع اقتصادها بقوة واستقرار جنباها الكثير من الهزات التي عصفت بالدول الصناعية الأخرى في المنطقة.
لا أكتب هذا الكلام بمناسبة معينة، كما أن عيد استقلال الهند لم يحن بعد، ولا تربطني بتلك الدول صلة ما، ولكنني أكتب لكي أبين أمورا ثلاثة انتبهت لها مؤخرا:
أولا - تعودنا في الكويت، وفي العديد من الدول 'الشقيقة' ان نسخر من شعوب بعض الدول التي نعتقد بأنها مستضعفة أو 'فقيرة' اما بسبب اضطرار بعض مواطنيها لأداء نوعية من الأعمال التي نستنكف عن القيام بها بسبب جهلنا بقيمة العمل من جهة وعدم دقة ما نملكه من معلومات اقتصادية وصناعية عن الدول الأخرىِ والغريب أننا نبرع اكثر من غيرنا في قضايا السخرية من شعوب الدول الاخرى رغم كل ما نحن فيه من بؤس شامل!!.
ثانيا - تبين لي أن ما اصبحنا نردده بكل ثقة وخاصة عندما نجد أنفسنا في القاع، أن سبب كل ما نعانيه من تخلف صناعي واقتصادي وتجاري، وما نشكو منه من تشرذم وصراع بشري يعود بشكل مباشر الى الفترة التي وقعت فيها البلاد الصديقة والشقيقة، ولفترة طويلة، تحت حكم الاستعمار 'البغيض'ِ وكثيرا ما نردد كالببغاء، حقا أو ظلما، ان الدول الاستعمارية حطمت نفوسنا وخربت اقتصاداتنا واستنزفت مواردنا وتركتنا كعيدان البامبو الناشفة والقابلة للكسر بسهولة!!.
ولكننا لو نظرنا بتجرد لتجارب العديد من الدول كسنغافورة وماليزيا والى حد ما أندونيسيا وكوريا وبالذات للتجربة الهندية لوجدنا هراء وفراغ مثل هذه الادعاءات!! فقد 'عانت' الهند، وخلال الألف سنة الأخيرة على الاقل، من مختلف أنواع الحكم الاستعماريِ كما واجهت عددا هائلا من المشاكل، وبصورة خاصة في القرنين الماضيين، والتي لا يمكن تصور مدى قسوتها وهذا ما جعل الكثيرين منا يعتقد، والى ما قبل ثلاثة عقود، بأن تلك الدولة سوف لن تقوم لها قائمة، وستبقى متخلفة الى الأبد وسيبقى اقتصادها ضعيفاِ واصبحنا نصف كل من نعتقد بأنه ضعيف او خامل أو غير فطن بصفة تتعلق باسم تلك الدولة! وهذا قمة عدم الادراك والاحترام لخصائص الشعوب وميزاتها ودليل على مدى جهلنا وتخلفناِ فقد تقدمت تلك الدول في كافة الميادين السياسية والاقتصادية والصناعية بدرجة يستحيل معها مجرد التفكير باللحاق بهم وبقينا نحن في المكان الذي نحن فيه، فكيف لا نستحي من تكرار القول ان الاستعمار هو السبب الأساسي لما نحن فيه من تخلف؟!.
ثالثا تمتد خطوط السكك الحديدية الخارجية في الهند لمسافة 67 ألف كيلو متر، وتخدم قارة تزيد مساحتها عن ثلاثة ملايين كيلو متر مربع (الكويت 15 ألفا) ويتنقل كل يوم على تلك الخطوط أكثر من 11 مليون نسمةِ وقد تسبب حادث تصادم وقع أخيرا بين قطارين عن مقتل وجرح 500 راكب، الى استقالة وزير السكك الحديدية في تلك الدولة العظيمة لأنه اعتقد بأنه يجب ان يدفع ثمن ذلك الخطأ البشري!!.
أما نحن في هذه الدولة الصغيرة وقليلة العدد والتي من المفترض، بسبب العديد من العوامل، ان تخلو من أية مشاكل مالية او اقتصادية او سكانية أو سكنية أو تعليمية أو صحية، فان لدينا كما هائلا من القضايا كافية لدفع عشرات الوزارات وليس الوزراء للاستقالة، ورغم كل ذلك لا نزال نعتقد، وفي صميم التافه من ثقافتنا والمتواضع من اعتقاداتنا، بأننا أفضل وأحسن من شعوب تلك البلاد 'في كل شيء'!!!.
أحمد الصراف