امبراطورية اللجان الخيرية
عندما يرغب صاحب شركة ذات مسؤولية محدودة في تجديد ترخيص شركته فانه 'يجبر' على تقديم ميزانية سنوية مدققة من مكتب محاسب قانوني مرخص قبل الموافقة على التجديدِ وتصر وزارة التجارة على هذا الطلب حتى ولو كان رأسمال الشركة لا يتجاوز 7500 دينار او ان اصحابها رجل وزوجته او ابناؤه وذلك حرصا من الجهات الحكومية على مصالح الشركاء والمتعاملين مع الشركة.
كما تتطلب انظمة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من كل من يرغب في جمع التبرعات لأي غرض كان مراجعتها وتقديم طلب رسمي بذلك وتعبئة النماذج والتعهدات المطلوبة ودراسة طلبه من قبل لجان معينة والموافقة النهائية عليه، يسلم بعدها مقدم الطلب دفاتر ايصالات رسمية تحمل ختم الوزارة ويطلب منه اعادة كعوب الايصالات للوزارة لتدقيق ما تم جمعه واثباته في السجلات الرسمية.
في الجانب الآخر نجد ان هناك عددا من الجمعيات السياسية الدينية التي فرخت اكثر من مائة وعشرين لجنة اخرى تقوم وبنشاط منقطع النظير بالانهماك، ومنذ عقود طويلة، بمهمة جمع التبرعات عن طريق عشرات المكاتب والفروع وبواسطة مئات الاكشاك والصناديق وآلاف العلب المعدنية التي تجدها في المساجد والبقالات والاسواق المركزية والمستشفيات وعلى ابواب المجمعات التجارية من دون ان تحصل على اية موافقة او تصريح من اية جهة رسميةِ كما لم تشغل نفسها بتقديم طلبات الحصول على موافقات وزارة الشؤون او استلام وتسليم دفاتر ايصالات او توظيف مدققي حسابات ولا مراجعي سجلات ولا ديوان محاسبة ولا رقابة داخلية او خارجية! فعملية الجمع واللم والهبش تتم بشكل منظم وبسرية تامة وخلف اسمك الجدران وفي اعمق السراديبِ ولاكمال عملية تضييق الخناق والحصول على اكبر المبالغ واعظم التبرعات فقد قامت هذه الجهات فائقة التنظيم باستغلال رضا الحكومة والجهات المعنية عنها وما تقوم به من غض للنظر عن كل تجاوزاتها، قامت برصد مئات ألوف الدنانير لصرفها على حملات اعلانية منظمة لمشاريع سنبلية وغيرها لجمع تبرعات آنية نقدية او مستمرة جارية تودع في حسابات شخصية لمجموعة من الرجال الذين يقومون بادارتها بصورة منفردة ومن دون اية رقابة على تصرفاتهم بتلك الارصدة سوى ضميرهم، ومسألة الضمير هذه لا يمكن الاخذ بها او الاعتراف بها في مسائل الامانة والمحاسبة والتدقيق، ولا مكان لها في النظم القانونية والمحاسبية التنظيمية الحديثة في اية دولة تحترم نفسها وتمتلك المؤسسات الدستورية التي تقوم بعملية التشريع والرقابة والتنفيذ.
ان التناقض واضح في الموقف الحكومي بين الحالتين اللتين ذكرناهما ويتبين منها مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الحكومة بعد ان كسرت كافة الانظمة والقوانين وضربت بموادها عرض الحائط من اجل ارضاء فريق سياسي ديني لا قرار ولا حد ولا حدود لطموحه وشهوته للسيطرة عن طريق جمع المال وكسب النفوذ السياسي لتحقيق طموحاتها المستقبلية.
وعندما اعترضت الجمعيات السياسية الاسلامية على 'خبر' او اشاعة اغلاق لجانها وفروعها وتحجيم انشطتها المتمثلة بجمع الاموال من الآخرين ووضع حساباتها تحت الرقابة المباشرة للجهات الرسمية بحيث وصل الامر بأحد كبار المنتمين للجماعات الدينية المتأسلمة وعضو في مجلس الامة السابق بأن يصف ما تنوي الحكومة اتخاذه من اجراءات تحد من قدرة الجمعيات الدينية على جمع المال والتصرف به بالطرق التي تراها ب'انه الهجوم الاخير على آخر معاقل الجماعات الاسلامية'! فقد لخص بتلك الكلمات القليلة، بدقة وربما من غير قصد، الوضع الحساس والخطير الذي ستجد الجماعات الدينية المسيسة نفسها فيه ان انقطعت مواردها المالية السرية او اصبحت اوضاعها المالية وحساباتها مكشوفة للآخرينِ ولا ارى سببا مقنعا لتلك الغضبة ولتلك الشراسة في مقاومة نوايا الحكومة المتمثلة بالحد من قدرة الجمعيات على جمع المال الا اذا كان القائمون عليها لهم مصلحة مادية ومعنوية مباشرة وراء عملية الجمع والتوزيع تلك! فلو افترضنا ان همهم الاول هو اخذ المال ممن يملكه بوفرة لاعطائه لمن يحتاجه، وطلب منهم الكف عن ذلك حيث ان جهة اخرى كبيت الزكاة مثلا ستقوم بهذه المهمة فليس من حقهم الاعتراض على هذا الامر ووصف الاجراء بانه اعتداء على آخر معاقل الاحزاب الدينية، الا اذا كانت نسبة ما يتم استقطاعه من تلك الاموال وطريقة التصرف بتلك النسبة تستحق كل ذلك الغضب وكل تلك الاستماتة في ابقاء الوضع على ما هو عليه!.
احمد الصراف